علاء اللامي*أثارت صحيفة «نيويورك تايمز» فضيحة سياسية ودستورية «عراقية» من العيار الثقيل، لكنها مرّت برداً وسلاماً على أهل «المنطقة الخضراء» والنخبة السياسية الناشطة في ما يسمّى العملية السياسية، شأنها شأن العديد من الفضائح الأخرى المختلفة العيارات. غير أن الفضيحة الجديدة مختلفة نوعياً عن شقيقاتها، لأنها تنسف الأساس الأهم والمركزي الذي قامت وتقوم عليه اللعبة السياسية التي أوجدها الاحتلال، وهو الدستور الدائم الذي يحتكم إليه الفرقاء في الأحزاب الطائفية والعرقية كلما دبَّ بينهم خلاف أو شقاق.
تتلخّص الفضيحة التي أثارتها اليومية الأميركية، في أن الدبلوماسي السابق بيتر غالبريث، عمل مستشاراً مدفوع الأجر، لا مجاناً كما ادّعى، لدى زعماء الأحزاب والميليشيات الكردية، وأنّه قبض منهم ملايين الدولارات (يراوح المبلغ ـــــ وفق محكمة لندنية حكمت لمصلحته ـــــ بين 50 و75 مليون دولار، وقد يصل المبلغ إلى 144 مليوناً، يناله هو وشريكه المستثمر اليمني في ميدان النفط شاهر عبد الحق) عبر صفقة نفط مشبوهة، كانت شركة النفط النروجية «دي أن أو»، التي تعمل في إقليم كردستان شمال العراق، طرفاً فيها. مقابل تلك المبالغ الضخمة، قام غالبريث من خلال اشتراكه في عملية صياغة مسودة الدستور العراقي، بتمرير وتثبيت العديد من المواد والفقرات التي تصب في مصلحة الأحزاب والزعماء الأكراد على حساب الدولة العراقية المركزية من قبيل:
ـــــ يكون القرار الأخير والنهائي للإقليم لا للدولة المركزية إذا نشب خلاف بين الطرفين، وهذه مادة دستورية لا نظير لها في أيّة دولة من دول العالم المعاصر.
ـــــ إنتاج وتصدير النفط والثروات الطبيعيّة الأخرى باستقلال تام عن المركز.
ـــــ تسهيل إلحاق محافظة كركوك بالإقليم الكردي عن طريق استفتاء من نوع الأغلبية البسيطة في محافظة متعددة قومياً وديناً.
ـــــ منح حق «الفيتو» لكلِّ ثلاث محافظات ـــــ وهذا هو عدد محافظات الإقليم الكردي، فيا للمصادفات الغالبريثية الجميلة! ـــــ ترفض أيّ تعديل دستوري أو تقديم مسودة دستور جديد حتى لو أقرَّ عبر استفتاء عام من جانب جميع المحافظات العراقية الخمس عشرة الأخرى.
ولهذه القضية سابقة مشابهة مرت هي الأخرى مروراً عابراً. فقد كثر الحديث في سنوات الاحتلال الأولى، عن دور كبير وأساسي للأستاذ الجامعي ذي الميول الصهيونية في جامعة هارفرد الأميركية، نوح فيلدمان، المستشار السابق لسلطة التحالف المؤقتة بعد سنة 2003، وهي القيادة السياسية والعسكرية للاحتلال الأميركي للعراق آنذاك، في كتابة مسودة الدستور العراقي حتى لقّب هذا الشخص بأبي الدستور «العراقي»!
فيلدمان لم ينكر الدور المسند إليه، وهو يواصل عمله ونشاطاته «العراقية»، وآخرها محاضرة له ألقاها أمام النخبة السياسية الأميركية قبل أسابيع، ورشح فيها السياسي الكردي برهم صالح على حساب المالكي وعلاوي وعبد المهدي مجتمعين لقيادة العملية السياسية وإخراجها من استعصاء «الموت السريري» الذي تغرق فيه. كما أنّ له كتاباً خطيراً عن العراق في سنوات الاحتلال الأولى بعنوان «بماذا ندين للعراق... حرب وأخلاق بناء دولة»، يؤكد فيه العامل النفسي والثقافي لكسب «قلوب العراقيين» إلى جانب تدمير المقاومة ـــــ يسميها الإرهاب طبعاً ـــــ بهدف إنجاح المشروع الأميركي في هذا البلد. النخبة السياسية العراقية الحاكمة والمعارضة ضمن الإطار الذي رسمه الاحتلال لم تتأثر حينها بفضيحة كتابة فيلدمان للدستور الذي اعتمدته، بل ظلت تتصرف كأن شيئاً لم يكن، فهو المهندس الفعلي لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية! ثمّ إنها خارج كل سطوة أو تأثير خلا تأثير الاحتلال الذي أوصلها إلى سدة الحكم المحلي الفاقد السيادة، وهي ـــــ كما هو واضح من أدائها سواء تَأَيرنَت اليوم أو تَسَعْدَنَت غداً ـــــ لم تتأثّر أو حتى تتوقف عند الفضيحة الجديدة التي تأتي في وقت يشتد فيه صراع أطرافها الهستيري على الكراسي والمناصب والثروات.
الخبير المرتشي غالبريث لم يستولِ بعد على لقب «أبو الدستور العراقي» من فيلدمان، لكن دوره في «دَسْتَرَةِ» عدد من المواد، وأخطرها المادة 140 بكل فقراتها، التي تسهّل على الأحزاب والزعماء الأكراد سلخ المحافظة الغنية بالنفط وإلحاقها بسلطات الإقليم الكردي، سيكون دوراً خطيراً ومدمّراً، وخصوصاً مع اشتداد الصراع والاستقطاب الطائفي بين التيار الطائفي الشيعي في قائمة المالكي، والتيار الطائفي السني في قائمة علاوي، واستغلال الزعماء الأكراد لهذه الظروف وابتزاز الطرفين الطائفيّين.
صحيفة نيويورك تايمز أكدت عرَضاً أن مسؤولين في الحكومة العراقية ومحلّلين أميركيين أبلغوها «أن دور غالبريث المزدوج، خلال المفاوضات المتعلقة بالدستور، انطوى على تضارب في المصالح، لأن النصوص التي سعى إلى إقرارها في الدستور زادت من قيمة حصته ـــــ في الصفقة النفطية؟ ـــــ وحققت له مصلحة خاصة، لكنه رفض هذه المزاعم، قائلاً إنه كان يساعد الأكراد فقط على تحقيق أهداف سياستهم المعلنة منذ فترة طويلة. وقال غالبريث: «ربما كانت لي مصلحة، لكني لا أرى أنه كان هناك أي تضارب...». لكنّ أولئك «المسؤولين العراقيين» ظلّوا مجرد أشباح لا شكل ولا أسماء ولا صفات لهم، وظلت العملية السياسية والصراعات الناتجة منها ومن انتخاباتها تدور حول نفسها كالمحدلة بانتظار لحظة الانفجار العميم القادم.
فضيحة كهذه، وبهذا الحجم والمصاديق، كانت كفيلة في بلد مستقل فعلاً ونظام حكم يحترم نفسه وشعبه، بأن تقلب وتغيّر أموراً كثيرة، بما فيها شكل الحكم وقواعده الأساسية وطبقته الحاكمة. لكنها في العراق الحالي لم تفعل شيئاً على المستوى الرسمي، سوى أنها وضعت علامة استفهام وإدانة كبيرة على العملية السياسية الأميركية الميتة، وعلى القائمين عليها والحاكمين والمعارضين باسمها... لماذا؟
لأنهم أولاً ارتضوا العمل والنشاط وفق دستور ملفّق سنَّهُ خبراء أجانب مرتشون. وثانياً، لأنّهم سخروا من الشعب وخدعوه حين قدّموا إليه مشروع هذا الدستور على اعتباره «وطنياً» للتصويت عليه وإقراره في الاستفتاء الشعبي المعروف، وثالثاً، لأنّهم يواصلون لعبتهم وفق هذا الدستور الملفّق الذي يمثّل خطراً على العراق ووحدته وشعبه في المستقبل القريب.

قام الخبير المرتشي من خلال اشتراكه في صياغة الدستور العراقي، بتمرير العديد من الموادّ على حساب الدولة العراقية
يعلم الزعماء الأكراد أنهم خسروا الكثير في الانتخابات الأخيرة، فعادوا إلى حجمهم السياسي شبه الحقيقي، حيث فقدوا أكثر من ثلث ما استولوا عليه من مقاعد برلمانية ومناصب حكومية وأموال مستقطعة من الخزانة المركزية بسبب غياب ومقاطعة السياسيين من العرب السنّة في المرحلة الأولى من الاحتلال، ويعرفون أيضاً أن انعقاد شمل البرلمان الحالي قد تنشأ فيه أغلبية كافية ومريحة لتعديل الدستور الملفّق الحالي في أيّ يوم وبما يضمن شطب المواد الغالبريثية والفيدمانية المفعمة برائحة الرِشى النفطية.
وعموماً، فإن العقلاء من الساسة الكرد، سيدركون قريباً أن الكبوة التي يمرّ بها العراق اليوم كدولة ومجتمع في سبيلها إلى الانقضاء، وسيكون من مصلحتهم عدم الاستقواء بالأجنبي الراحل قريباً، أو بالدساتير الملفّقة بالرشى والكمائن والصفقات السياسية مهما كانت احترافية وذكية، فكلُّ هذا زبدٌ سيذهبُ جفاءً. وسيكون مفيداً لهم لو أنهم قابلوا العراق الناهض من كبوته غداً بأكُفّ بيضاء وضمائر مرتاحة بعيداً عن المراهنة على صراعات الطائفيّين الشيعة والسنّة العرب لأنهم سيخسرون كل شيء إن توحّد هؤلاء ضدهم أو تلاشوا لمصلحة صعود قادة وطنيين غير طائفيّين. ثم إنَّ الإيمان بالحل الديموقراطي والإنساني لقضية الأمة الكردية ككلٍّ، على أساس حقها في تقرير مصيرها وبناء دولتها القومية كسائر أمم الكون، لا يتقاطع أو يتناقض مع الدفاع عن عراقية كركوك المتعددة القوميات والأديان. فمثلما يجب أن يكون اضطهادُ المواطن الكردي في دولة يسود فيها العربي أمراً مرفوضاً، ينبغي بالمثل أن يُرفَض اضطهادُ العربي أو التركماني أو الكلداني في «دويلة» يسود فيها الكردي المستقوي بالغزاة الأجانب.
* كاتب عراقي