تونس | غداة 25 تموز 2021، ركبت غالبية الأحزاب السياسية موجة المعارضة الشعبية لمنظومة حُكم حركة «النهضة» وحلفائها، وعبّرت عن احترامها لإرادة الشعب المطالِبة بالتغيير والإصلاح. حتى «النهضة» نفسها كانت من الأحزاب التي اعتبرت أن التدابير الاستثنائية التي أعلنها قيس سعيد، جاءت للتعبير عن الإرادة الشعبية الغاضبة والتي تمثّلت في تظاهرات كبيرة ضدّ الحكومة و«النهضة» من ورائها، حيث تَوجّهت غالبية المواطنين الغاضبين يومها، إلى مقرّات الحركة أكثر ممّا قصدت المقرّات الحكومية. إذن دعمت غالبية الأحزاب، باستثناء «حزب العمّال الشيوعي»، إجراءات سعيد قبل أن تُغيّر مواقفها في 22 أيلول الماضي، بعد الأمر الرئاسي 117، والذي مكّن فيه الرئيسُ نفسَه من الحُكم عن طريق المراسيم التي لا تقبل الطعن، ولم يحدّد فترة الاستثناءات بسقف زمني، بل لم يحدّد خارطة الطريق التي سيتمّ بمقتضاها «تصحيح مسار الثورة» و«بناء الجمهورية» وفق شعارات الثورة. ولم يبقَ من المساندين لسعيد سوى بعض الأحزاب اليسارية والقومية الصغيرة، في حين التحقت بقيّة القوى الرئيسة بجبهة المعارضة، على رغم الاختلافات الجذرية في ما بينها.ولعلّ سياسات سعيد نفسه هي التي دفعت بالأحزاب إلى اتّخاذ موقع المعارضة ضدّه، حتى إن البعض باتوا يرون أن الرئيس لا يبرع إلّا في «صُنع العداوات وإبعاد الأصدقاء». لكنّ أحزاب المعارضة لم تتمكّن إلى اليوم من توحيد خطابها أو خطواتها، وحافظت على خلافات عميقة تمنعها حتى من مجرّد الالتقاء والتنسيق، على رغم أنها مجتمعة على رفض مسار الاستفتاء ومشروع الدستور وطريقة إدارة سعيد للشأن العام، والمتّسمة بالانفرادية وغياب التشاور والتشاركية. هكذا، انقسمت المعارضة إلى ثلاث معارضات: الأولى تمثّلها «النهضة» وحلفاؤها من «ائتلاف الكرامة» و«حزب قلب تونس» وبعض الشخصيات العلمانية، والمتمثّلة في «جبهة الخلاص» و«مواطنون ضدّ الانقلاب»؛ والثانية يجسّدها «الحزب الدستوري الحر»، العدوّ الرئيس لـ«النهضة» ولسعيد في آن واحد؛ والثالثة عبارة عن مجموعة الأحزاب الاجتماعية التقدّمية والتي تجتمع هي الأخرى على معارضة سعيد ومنظومة الحُكم السابقة في الوقت نفسه. وعلى رغم اتّساع جبهة المعارضة وتنوّعها، إلا أن ما يُطمئن سعيد هو انقسام هذه الجبهة وعدم قدرتها على تنسيق خطواتها أو تنظيم تحرّكات ميدانية ضدّه. فطيلة السنة المنقضية، نظّمت التجمّعات المعارضة تظاهرات متفرّقة - كلّ على حدة - ضدّ الرئيس، لم تستطع أيّ منها أن تَجمع عدداً كبيراً. وحتى بمناسبة ذكرى الثورة (14 كانون الثاني الماضي)، نزلت كلّ الأحزاب إلى الشارع في يوم واحد وتوقيت واحد، لكن كلّ حزب امتنع عن الاختلاط بالآخر على رغم القمع الذي مارسته القوات الأمنية ضدّ الجميع.
لم تتمكّن القوى المعارضة من بلورة موقف موحّد من الاستفتاء


ولا تقف الصعوبات هنا، بل تتجاوز ذلك إلى صعوبة بلورة موقف موحّد إزاء القرارات التي يتّخذها سعيد بشكل منفرد؛ فعلى سبيل المثال، قاطعت غالبية الأحزاب والمنظّمات «الحوار الوطني» الذي دعا إليه الرئيس بحجّة أنه حوار شكلي استشاري يستعمله لتمرير مشروعه الشخصي، لكنها في الآن نفسه لم تتمكّن من فرض بديل سياسي يُعرض على المواطنين. وعلى رغم ما تدّعيه من أن سعيد لا شعبية له ولا يستطيع أن يحرّك الشارع، إلّا أن هذا العجز يلاحقها هي أيضاً، باعتبار أن جزءاً من التونسيين الذين لا يؤيّدون الرئيس، لا يؤيّدون أيضاً المعارضة وخاصة «النهضة» التي كانت شريكاً أساسياً في حُكم البلاد طيلة العشر سنوات الماضية، وربّما كان المنطق السائد لدى أنصار سعيد هو أن حُكم الأخير لن يكون أسوأ من حُكم «النهضة» وحلفائها، وأن «العهد الجديد» سيقطع مع عهد الأحزاب التي خدمت مصالحها على حساب مصالح الشعب وتحالفت مع الفاسدين واللصوص. لذلك، وباستثناء المنخرطين في الاستقطاب المؤيّد أو الرافض لسعيد، لن تجد حماساً لدى عموم الناس للانخراط في جهود المعارضة، بعدما تكوّنت أرضية خصبة انتعشت فيها حالة العزوف عن المشاركة السياسية.
وتَواصل العجز لدى المعارضين حتى بمناسبة الاستفتاء؛ ففي حين يجوب أنصار الرئيس البلاد طولاً وعرضاً لإقناع الناس بالتصويت لفائدة مشروع الدستور الجديد، ظلّت المعارضة أسيرة للندوات الصحافية في العاصمة وفي البرامج التلفزيونية والإذاعية، من دون أن تقوم بحملات ميدانية لإقناع المواطنين بوجهة نظرها، بل إنها لم تتمكّن على الأقلّ من بلورة موقف موحّد من الاستفتاء، وهو ما تجلّى في تشتّتها ما بين الدعوة إلى التصويت بـ«لا» أو المقاطعة.