لم يعد الاستماع إلى حديث المسرحي اللبناني وجدي معوض، وأمثاله ضرورةً. لم يعد الاستماع إليهم جذّاباً. صار خالياً من لذة اكتشاف وجهة نظر أخرى مختلفة، والتعرّف إليها، بل التفكير في أمرها مرتين. بات الاستماع إليهم أشبه بممارسة سادية؛ يسبّبون طنيناً في الأذن، وحججهم الواهية تتهاوى على رؤوسنا كالأبر المسنونة. لا شيء أكثر إزعاجاً من التعرّق البارد إلا مقابلتين مصورتين مع المخرج المسرحي وجدي معوض (الأولى جرت مع ألبير كوستنيان يوم الأربعاء الماضي، ضمن برنامج «عشرين ثلاثين» على محطة lbci وتبعتها الثانية، في اليوم التالي، على قناة يوتيوب الخاصة بصحيفة «لوريان لو جور»). تحدث فيهما عن حملة المقاطعة التي طاولت عرض مسرحيته «وليمة عرس عند رجال الكهف» (الأخبار 3/4/2024)، وعن القضية الفلسطينية وحرب غزة، بمكرٍ متقن لكن بسذاجةٍ غير متوقّعة، من معوّض الذي يفترض أن يكون عليماً بطبيعة الحروب التي دفعته صوب المنفى. على ما يبدو، إنّ وجدي معوّض، العارف بتراجيديا الإغريق، والمنتمي إلى نسب هذا المسرح، بات أسير الميثولوجيا إلى حدّ لم يعد بإمكانه التفريق بين الحقيقي والمجازيّ. بالأحرى، استحالت الميثولوجيا ـــ بعد استيلائها على عقل معوّض ـــ نسخةً أصليةً عن سيرورة التاريخ. جملة كريون في أنتيغون «أنا خلقت لأحب لا أن أكره» بوسعها، بحسبه، أن تنزع الحروب عن العالم وتحقق اليوتوبيا الموعودة. أن تحبَّ يعقوب، المستوطن الصفيق الذي يسرق بيوت الفلسطينيين ويستولي على أراضيهم إذاً أنتَ… وجدي معوّض.
أمام هذا الكوجيتو الإنسانيّ الهش، نحن نواجه وعياً أسطورياً يتحكم بصاحبه، ويدفعه عندما يتكلم إلى الإفصاح عن أقاويل فضفاضة، غارقة في الإنشائية، وزائفة. لا يزال وجدي معوض يردد أخباراً مفبركة صاغتها إسرائيل - انفضح أمرها على أنها أخبار كاذبة - ويتلوها بطلاقة وحماسةٍ، مثل ذاك الذي وجد حجةً بليغةً في سياق محموم، فرماها في وجه خصمه واعتقد أنه نال منه. كم من مجزرةٍ على إسرائيل «الكيان»، لا الحكومة الإسرائيلية، أن تقوم بها بعد حتى يلتفت وجدي معوض إلى الدماء المراقة ويخرج من كهفه؟
في المقابلتين اللتين أجريتا مع وجدي معوض، ندخل نحن إلى هذا الكهف. الظلال على الحائط لا تعكس الأشكال الأصلية، إنما هي نسخ مشوّهة عنها. هي ليست ظلالاً بقدر ما هي تهويمات وأضاليل وحالات إنكار. الأسئلة في المقابلتين نفسها والأجوبة كذلك. أهو تخاطر أفكار وتواتر، أم أنّ المعدّ واحدٌ؟ في الحالتين، كان حديث وجدي معوض يدنو من الثرثرة الساخطة: الكلام السهل الذي يقع في متون السذاجة ولا يليق بمبدع مسكونٍ باللغة مثله.
كلام معوّض بدا طافحاً بمغالطاتٍ تاريخية فادحة، هو القائل مثلاً، بثقةٍ وصلافة، إنّ نشوء إسرائيل بدأ حين قامت البرجوازية المسيحية ببيع أراضيها في فلسطين لليهود، بعدما ارتفعت الضرائب في مرحلة تقهقر الإمبراطورية العثمانية. هذا جزءٌ من كلام محمّل بنيّة مضمرة تروم ربطَ المسألة اليهودية بالمسألة الصهيونية وخلق التماهي بينهما. وهذا في السياسة، لهو فعلٌ بروباغندي رديء، وقد تنتشي إسرائيل إزاء سماعه. وكلام وجدي معوّض الساذج يلقيه بأداءٍ زاخر بالإطناب. غير أن فصاحة معوّض لا تسعفه إذا ما نظر ناظرٌ في هذا الكلام وفي مدى تماسكه، وعند فحصه بعينٍ مجردة لا تغويها مكانة «العالمية» ومزاج «حب الحياة» المبتذل، لن يلبث الناظر أن يرصد العيوب الفاقعة. بالنسبة إلى وجدي معوض، ألغيت مسرحيته «وليمة عرس عند رجال الكهف» التي كان مقرراً عرضها على مسرح «مونو»، لأن هناك مشكلات من صنف الغيرة والحسد بين اللبنانيين بعضهم بين بعض، ما دفع أصحاب الغيرة والحسد إلى شن حملةٍ شعواء عليه وعلى مسرح «مونو». وهؤلاء، أي أصحاب الغيرة والحسد، دائماً ما يرمون سهامهم باتجاه كل مبدع، وتجاه كل من يريد أن يفعل «شيئاً» للبنان. موضوع المقاطعة عند معوض إذاً هو قضية لبنانية بحت. لا علاقة لسفارة تل أبيب، ولا الدعم المالي الإسرائيلي الذي تلقّاه، بل إنه شأن لبناني بامتياز، إنها حرب داخل المنزل الواحد. في لبنان، هناك فائض من الكراهية، وميل إلى تقمّص الشر. إننا نكنّ الضغينة بعضنا لبعض، وكل ما نفعله هو إلحاق الأذى بالآخرين. هذه السذاجة في التبرير، حيث رمي اللوم على الآخرين والتذمّر من «أعباء الشهرة وتبعاتها»، يبوح بها وجدي معوّض نفسه وليس أحد فنّاني «روتانا». نحن مجانين بحسبه (وهو محقّ)، وجنوننا يُبرز في ممارستنا عكس ما نقوله. وقبل أن نستمر، كون الظرف الآن مؤاتياً، هناك مَن يسكن داخل «البيت الواحد»، ومن هو غارق في حفلة الجنون هذه، ومن حقه أن يعلم بشأن رسائل التهديدات ومفاداتها، تلك التي وجّهت إلى معوض وإلى الممثلين وإلى مسرح «مونو»، كما يُشاع وكما تُردّد الألسن، حتى نمتنع عن القول إنّ الشائعة هذه لهي كذبة وفعل ابتزاز.
بيد أنّ وجدي معوض يظهر أنه لبناني تماماً كاللبنانيين الذين ينتقد نزعتهم الهوبزية (من هوبز). والحال إنّ التشخيص «الأنثروبولوجي» الذي قدّمه معوض، إذ رأى أنّ اللبنانيين ضحايا وجلادون في آن واحدٍ، ظاناً أنه ينأى بنفسه عن هذه اللوثة، وأنه أكثر صلابة من هذا الجسد العليل، يطاوله بدوره. في المقابلتين، هو ضحية: ثمة من يحاربه لأنه عالميّ. هو ضحية الكراهية التي ترعرع في كنفها. أهله لم يشاهدوا مسرحياته لأنهم في لبنان بينما هو في المهجر. لقد ارتحل إلى كندا لأن هناك «أشخاصاً» سبّبوا الحرب. مسرحيته «كل العصافير» مُنعت في ألمانيا بتهمة معاداة السامية، أما في لبنان فمُنعت مسرحيته «وليمة عرس عند رجال الكهف» لأنه مطبّع. أين الفروقات الطفيفة حد الالتباس التي تميّز المرء وتجعله منفرداً في مواقف خارجة عن التعليب الذي يفرضه السائد؟ يتساءل. وهنا هو، على غرار الميثولوجيا، يقصد: لماذا يزجّكم الواقع في كنفه، ولا أراكم ترتحلون صوب المثل العليا، وصوب التجريد الذي يحافظ على «نقاوة» القضايا من دون أن يدنّسها الواقع؟ وفي المقابلتين، وجدي معوض جلّاد: يصدّق السردية القائلة ببقر بطون حوامل المستوطنين. يؤمن بكيان إسرائيل، أما التخلّص منها باعتقاده «فكرة بغيضة». هو يدين السابع من أكتوبر إدانةً مقذعة، تشبع رغبة بيرس مورغان العارمة في أن يقوم مواطن عربي بهذه الإدانة وبهذا القدر من الردح والهجاء. ولا يكفّ معوّض عن الموازاة بين «حماس» وإسرائيل، وبين المستعمِر والمستعمَر، فالحاصل بالنسبة إليه «صراعٌ بين الإخوة».
في حالة وجدي معوض، لا يثير جانب الضحية عنده أي حالة من التعاطف أو الشفقة. ذاك أنّ النظر في جانبه الآخر من شأنه أن يعطينا الصورة الكاملة عنه؛ صورة لا لبس فيها ولا زيغ، بوصفه جلاداً من الطراز الرفيع، كأبطال مسارح الرومان. حتى ولو ارتأى من حينٍ إلى آخر ارتداء قناع الضحية، فذلك بالمبدأ من دواعي التأليف المسرحي. ومن المعروف عن هؤلاء ميلهم الحثيث نحو التراجيديا، ذلك أنّها قبل أي شيء عملية تطهّر، يعني تشذيب المخالب، وكبح لذة ضرب السوط. لكننا نعلم أنّه عقب انتهاء التصفيق وجفاف الدموع، يعود الممثل إلى منزله مثلما يعود الجلاد جلاداً.
ردّد بأنّ نشوء «إسرائيل» بدأ حين باعت البرجوازية المسيحية أراضيها في فلسطين


بوسع وجدي معوض أن يتملّص من واجبه (الإنساني) الذي يزعم أنه يمتاز به بقدر ما يشاء. إذا كان وجدي معوض يجاهر في الدفاع عن حق إسرائيل في العيش، فهذا كالاستمتاع بمنظر الذباب الهائم فوق جثةٍ لقت حتفها من دون ذنبٍ، ثم الشدّ على «الأيادي القذرة» للتهنئة. أما مواربته في تقديم حجج ملتوية عندما يتعلّق الموضوع بسياق شديد السخونة، كالحرب بين إسرائيل و«حماس»، مثل ذريعته في «رفض الراديكالية»، والمقصود رفضه أخذ موقفٍ يحشره في زاوية المفاضلة بين القاتل والمقتول، فما هو سوى عملية قتل رمزية، ينفذها معوض بحق كثيرين قضوا بفضل سياسة إماتة وتطهير ممنهجٍ، مرتدياً لباس الطهارة، مع ربطة عنق تحيل إلى الفذلكة الإنسانية، إضافة إلى قبعة تحميه من شعاع «الأنوار» التي تصيبه مبادئها بالطفح الجلدي.
وجدي معوّض اللبناني كاللبنانيين الذين ينتقدهم، استبدل في مقابلته مع ألبير كوستنيان أسطورة الفينيق بـ«أسطورة النمل»، مستمدّاً من النمل الذي يعرف كيف يتوارى أثناء مرور المحدلة فوقه، إذ يدنو إلى القعر ويحفر حتى يجد ضوءاً ليخرج، داعياً اللبنانيين إلى أن يحذوا حذو النمل، بغية استكشاف الأمل، لكنه يتحفّظ على العبرة المرجوّة، فتراه غارقاً في ظلمة كهفه مكتفياً بمسامرة نفسه. معوّض الذي يصرّ على الحوار، وملاقاة «الآخر»، سرعان ما يستدعي صورة هذا «الآخر» من مخازن ذاكرته. نرى أنّ لا قطيعة إبيستيمولوجية بحق هذا «الآخر» ولا تعليق للحكم، مجرّد تصوّرات مسبقة وبروفايلات جاهزة. وإذا لم يكن هذا «الآخر» متوافقاً مع «معايير» معوّض فيغدو وجوده جحيماً. على هذا النحو، يقع وجدي معوّض ضحية أيديولوجيته، وتغدو محاولاته التضليلية واضحة، في أنها متورطة في صناعة الالتباس والترويج له.
قد يخال واحدنا أن المنفى هو علّة وجود الكهف الذي يسكنه معوّض، فوطأة الغياب قاهرة، وقد تربك العلاقة بين المرء وبين الوجوه والأسماء والذوات. لكن وجدي معوض المتمسّك بالذاكرة تمسّكاً جامداً، والمنقاد وراء أصدائها، لا يسري عليه هذا الشرط. لن يجد المستمع إلى معوض أي ذكر أو حضور للشخصية الفلسطينية في أحاديثه، في الوقت الذي يرفض رفضاً قاطعاً «امحاء شعب ما أو بلد ما»، وهو يقصد أنه يعارض تفكيك الكيان الإسرائيلي، الذي لا داعي للتذكير، بأنّه يقوم بمحو جغرافيا وشعب. هنا لا يفصح الجلاد عن موقفه المشين فقط، إنّما يبلغ الوعي الأسطوري أعلى مستوياته. فمعوض، ابن المسرح الفجائعي، يقوم بإسقاط التراجيديا باعتبارها حكاية متناغمة لها وثوقيتها على العالم. لم يعد النظر إلى غرض التراجيديا كالسعي إلى الحرية ومحبة القدر وغيرهما جديراً، بل صار النظر إلى التراجيديا- باعتبارها، كما أسلفنا، النسخة الأصلية لسيرورة العالم- كعدمية متحققة في العالم المعاش. على هذا النحو، يتعامل معوض مع العلاقة السامّة بين فلسطين وإسرائيل بوصفها مشهداً لسيزيف الذي اعتاد على اللهو مع صخرته. ثمة متاهات قدرية، وقوة عبثية تسكن المرء وتحركه، هذه بعض من شؤون المسرح التراجيديي، إلأ أنّ الأمر ذاته يراه معوّض ينطبق على القضية السياسية، أي إنّ الفلسطيني يقاتل لأنه فلسطيني، و«الإسرائيلي» كذلك. المسألة جوهرانية بحت هنا، وهذا من السذاجة بحيث لا يصدقه ناظر.
على أنّ النقاش مع معوض وسواه، بات مماثلاً للاستماع إليهم، ممارسة عقيمة، أشبه بجرّ صخرة ثقيلة من قعر الهاوية إلى رأسها. وكوننا محكومين بتأدية هذه المشقة، وجب التذكير: إنّ الفلسطيني يقاتل لأنه يريد أن يكون، أولاً وأخيراً، إنساناً، ولأنه يرفض أن يُمحى وأن يُقتلع من أرضه. أما بعد، فإن الفلسطيني الذي أحب قدره، وانغمس فيه، مسؤولٌ عن وجوده، وعليه، فهو يؤمن أنه لن يكون حراً من دون أن تكتمل «فلسطينيته». وعليه، لا يمكنه الاستجابة إلى من يريد أن يسلبه وجهه، ويطلق النار عليه بمجرد النظر إليه، كما هي دعوة ليفيناس (الذي مثل وجدي معوض يغيّب الوجهَ الفلسطيني) التي يطلبها معوض، ذلك أن لا «آخر» هنا، بل بشر على هيئة مسوخ.
المسوخ يرون جميع من يعاديهم حيوانات بشرية، ما رأي وجدي معوض، المُحب لا الكاره، بذلك؟
جرت مقاطعة وجدي معوّض في بيروت، وهو ممتعضٌ من ذلك، ففي الغرب يمكنه أن يقول ما يشاء من دون أن يحاسبه أحدٌ. نحن ننتظر منه أن يقول ما يقوله الغربيون، لا العرب الذي لا يتقن لغتهم في الوقت الذي يستمد مواضيعه من عالمهم، عن أنّ إسرائيل (الحكومة الإسرائيلية إذا أراد) صنو النازية.