يدعونا نداء أبو مراد إلى أمسية روحانية بامتياز يقدّمها على خشبة «مسرح المدينة» السبت المقبل مع رفقا رزق (إنشاد) وغسان سحّاب (قانون)، يرافقهم «تخت الجامعة الأنطونية للموسيقى الفصحى العربية». هذه الأمسية التي تقام بالتعاون مع «متحف نابو»، تحمل عنوان «حفل سماع مقامي في العشق الإلهي» حيث يصطحب الفنانون جمهور المدينة في رحلة ممتعة إلى عالم التصوّف والقصائد الروحية. يضمّ البرنامج أربع وصلات في مقام الحجاز كار، ومقام الحسينيّ ومقام السيكاه ومقام العشّاق، جامعاً بين المناجاة الروحية والشعر الصوفي وبين التلحين والارتجال العزفي الغنائي التقليدي المقامي العربي. يعرّف البروفيسور نداء أبو مراد، عميد كلّية الموسيقى وعلم الموسيقى ومدير مركز البحث في التقاليد الموسيقية في الجامعة الأنطونية، ومعدّ الأمسية وملحّنها وعازف الكمان فيها على أنها «رحلة وجدانيّة موسيقيّة على متن العزف وإنشاد نجاوى روحيّة وقصائد لأولياء التصوّف، من المسيحيّة والإسلام، بحسب تقليد النهضة العربيّة الموسيقيّ الفنّيّ. ويعتمد البرنامج على مفهوم الوصلة، وهي متوالية لفقرات موسيقيّة متنوّعة الأشكال والمنضوية في مقام واحد. وهي شكل موسيقيّ كبير ظهر في عصر النهضة العربيّة، وتتّبع مساراً إلزاميّاً جدليّاً ثلاثيّ الأطوار، إذ يتكوّن طورها الأوّل (الأطروحة) من فقرات مسبقة التلحين، ويتشكّل طورها الثاني (نقض الأطروحة) من فقرات من ارتجال التقاسيم والتلاوة المرنّمة لأبيات من الشعر، في حين يتماهى طورها الثالث (المحصّلة) مع فقرات تتواتر فيها الجُمل المرتَجلة مع اللازمات الثابتة». أعدّ أبو مراد الأمسية ولحّن النصوص التي ستؤدَّى خلال الأمسية التي يدلّ عنوانها على الرابط المشترك في ما بينها، إذ يجمع بين هذه النصوص المختارة موضوع الحب الإلهي، وقد انتقاها أبو مراد من ««مناجاة المحبّين» الواردة في «الصحيفة السّجّادية» للإمام عليّ زين العابدين بن الحسين (ع.س. 38-95 ه)، ومن كتاب أناشيد «الحبّ الإلهيّ» للقدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث (949-1022)، وهو من كبار آباء الكنيسة الشرقيّة والرهبان الهدوئيّين (تعريب فيفيان نعيمة)، ومن قصائد لكبار أولياء التصوّف الإسلاميّ العربيّ، رابعة العدويّة (713 أو 717-801) والحسين بن منصور الحلاج (858-922) ومحيي الدين ابن عربيّ (1165-1240)». أضاف إلى ذلك قصيدة «العاشق المتمرّد» الصوفيّة التوجّه والفلسطينيّة الهوى، كما يصفها، وهي للشاعر السعوديّ المعاصر مهذل بن مهدي الصقور. يشرح لنا أبو مراد المزيد عما يعنيه بتقليد النهضة العربية الموسيقي الفني بما أن ملصق الأمسية يتحدث عن ذلك: «نعني بتقليد النهضة العربيّة الموسيقيّ الفنّيّ تلك المدرسة التجدّديّة في الموسيقى المقاميّة التي ظهرت في المشرق خلال عصر النهضة العربيّة، وكان رائدها المطرب والملحّن المصريّ عبده الحامولي (1843-1901). وقد اعتمد هذا التيّار نهج التجدّد المتأصّل، إذ فعّل القدرات التوليديّة الموسيقيّة في التلحين والارتجال العزفيّ والغنائيّ، انطلاقاً من القواعد النحويّة الموسيقيّة (المرتبطة بالمقامات والتفاعيل الخليليّة والضروب الإيقاعيّة القرعيّة) ومن النماذج الموروثة لابتكار ما هو جديد، بخاصّة ارتجالاً، وصولاً إلى إدخال السامع في أحوال من الانخطاف أو الطرب العميق، القريبة من الوجد الصوفيّ. وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ مقاربتنا لمفهوم التقليد هي تلك التي تتّخذ معناها التأويليّ الإبداعيّ، بعيداً عن استنساخ الموروث، كطريقة لبناء الجديد على أساس ذلك الموروث. في المحصّلة: إنّها الموسيقى الفصحى أي الكلاسيكيّة العربيّة التي نعمل على أساس منهجيّتها وقواعدها ونماذجها لابتكار ما هو جديد على النسق الموروث الذي يحاكي وجدان المشرق العربيّ في كلّ مكوّناته».
في تقديم برنامج مماثل الكثير من التحدّي والصعوبة، خصوصاً على المستوى التقني والأدائي. وبطبيعة الحال ليس أي موسيقي قادراً على الوقوف على المسرح لأداء هذا البرنامج تحديداً. رفقا رزق (إنشاد) وغسان سحّاب (قانون) ليسا بحاجة إلى التعريف في هذا المجال الموسيقي الكلاسيكي العربي، خصوصاً أنّهما يتمتّعان بخبرة واسعة في الأداء والتعليم ويرافقان أبو مراد في الكثير من الأمسيات الموسيقية. لا ننسى أيضاً مشاركة تخت الجامعة الأنطونية للموسيقى الفصحى العربية الذي يضمّ مجموعة موسيقيين متخصصين في التقليد الموسيقي المشرقي الفني، من القادرين على أداء تأويليّ مرتجل، يعملون في كلية الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة. عن المميزات التي ينبغي للموسيقي التحلّي بها لأداء هذا النوع المتطلب من الموسيقى، يشرح لنا أبو مراد: «كلّ موسيقى كلاسيكيّة تحتاج إلى موسيقيّين أكفّاء من المنظار التقني الموسيقي، أي التمكّن من الصوت بالنسبة إلى المطرب، ومن تقنيّات الآلة بالنسبة إلى العازف، ومن منظار «الموسيقية»، ذلك السرّ الذي يمكّن من إيجاد أداء صائب ذي معنى و«طعمة»، أي إنّه ليس أداءً تقنيّاً ميكانيكياً. لكنّ الموسيقى الفصحى العربيّة تتطلّب، بالإضافة إلى ما سلف ذكره، تحلّي الموسيقي بملكات إبداعيّة تجعله قادراً على التأليف الموسيقيّ الفوريّ، ما يسمّى بالارتجال، الذي يحتاج إلى السلطنة، أي سلطنة روح المقام على ذهنه الموسيقيّ، وهي ملكة غير مطلوب تحقّقها في الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة، بل هي كفاية جوهريّة في الموسيقات المقاميّة الحيّة».
في الأساس، يقول أبو مراد عن علاقته برفقا رزق وغسّان سحاب، كما بهيّاف ياسين المشارِك ضمن تخت الجامعة الأنطونية للموسيقى العربية الفصحى إنّها علاقة «مرشد ومريد، على صعيد موسيقيّ وعلى صعيد علم الموسيقى الأكاديميّ البحثيّ، وقد أضحت الآن علاقة زمالة. فهم أعضاء الهيئة التعليميّة في كلّية الموسيقى وعلم الموسيقى وأعضاء تخت الجامعة الأنطونيّة للموسيقى الفصحى العربيّة. وعبر مواهبهم واجتهادهم والتزامهم الخلقيّ العميق، يشكّلون عماد مستقبل الموسيقى الفصحى العربيّة في لبنان. لقد تسلّمتُ الأمانة من أستاذي فوزي سايب، رحمه الله، وقد سلّمتها لهم كي يثمروها ويسلّموها لمريديهم».
نرفع أناشيد الحبّ الإلهيّ كصلاة عن نفس شهداء فلسطين وجنوب لبنان «على طريق القدس» (نداء أبو مراد)


لهذه الأمسية الروحانية الكثير من الدلالات. فهي تُقام في مدة دينية خاصة (سواء للمسيحيين أو المسلمين) كما تعبّر عن نوع من الالتقاء البشري على الحب الإلهي في زمن صعب جداً. وبطريقة محددة أكثر، لهذه الحفلة دلالات واضحة «في الروزنامة الدينيّة المسيحيّة الإسلاميّة في لبنان، كونها تأتي في الأسبوع الفصحيّ الأوّل، بحسب التقويم الغريغوريّ، وفي الأسبوع الثالث من الصوم الرمضانيّ المبارك ومن الصوم الأربعينيّ الأرثوذكسيّ، وذلك إن عبر النصوص التي تخبر عن رحلة الاستنارة وعن العشق الإلهيّ، أو عبر الأحوال من الوجد الصوفيّ التي يستثيرها الاستماع إلى الموسيقى المقاميّة. والجميل أنّ الحفلة تعبّر عن الالتقاء الممكن والمنشود للسالكين المسيحيّين والمسلمين في طريق الحبّ الإلهيّ والهدوء الصوفيّ، في زمن الضوضاء والأزمات»، وفقاً لما يقوله أبو مراد.
في شهر شباط (فبراير) الماضي، كانت فلسطين وأرواح شهدائها وشهداء جنوب لبنان في قلب أمسية سماع مقامي لأبي مراد والموسيقيين أنفسهم في الجامعة الأنطونية، اعتبرها نوعاً من الصلاة. حصة فلسطين محفوظة أيضاً في أمسية السبت، إذ يقول أبو مراد في هذا الصدد: «أمام الإبادة الجماعيّة التي يقوم بها ورثة هيرودس (ذابح أطفال بيت لحم) وقيافا (صالب السيّد المسيح يسوع) بحقّ أهلنا في غزّة، أقمنا في 22 شباط الماضي حفل سماع مقاميّ لفلسطين في كنيسة الجامعة الأنطونيّة، على أمل أن تتوقّف الإبادة سريعاً. وبما أنّ المجزرة مستمرّة، فإنّنا سنهدي أيضاً حفلة 6 نيسان إلى فلسطين، فنرفع أناشيد الحبّ الإلهيّ كصلاة عن نفس شهداء فلسطين وجنوب لبنان «على طريق القدس»، طالبين من الله أن يوقف المذبحة الصهيونيّة بحقّ أهلنا، تمهيداً لتحرير فلسطين».

* «حفل سماع مقامي في العشق الإلهي»: س:21:00 مساء السبت 6 نيسان (أبريل) ــــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ــ تباع البطاقات في فروع مكتبة «أنطوان»