أيّ بداية تلك التي أعلنتها فعاليّة VivaTech مع انطلاقة يومها الأوّل تحت قبّة مدينة المعارض Porte de Versailles في باريس صباح الأربعاء 14 حزيران (يونيو) الحالي (يُختتم غداً السبت)؟ بات كلّ شغوف بالثورة التكنولوجية والرقمية في زوايا العالم الأربعة على موعدٍ سنوي لحضور الفعاليّة الأكبر في عالم التكنولوجيا في أوروبا منتصف هذا الشهر من كلّ عام. إذاً، اربطوا الأحزمة واستعدّوا، على مدى أربعة أيّام، للانطلاق في رحلةٍ إلى المستقبل عبر مركبة عابرة للحدود والأزمان ولكلّ ما يمكن أن يتخيّله العقل.يتمحور VivaTech حول التكنولوجيا الناشئة كالذكاء الاصطناعي والروبوتات والواقع الافتراضي والواقع المعزّز والبلوك تشاين والعملات المشفرة ذات العدد الهائل من التّطبيقات في مجالاتٍ شتّى، ويُعدّ الحدث نقطة تلاقٍ للشركات النّاشئة والمبتكرين ورجال الأعمال والمستثمرين والشخصيات العامة والبارزة من مختلف أنحاء المعمورة، إذ غالباً ما يشهد عروض التّشغيل الأوّل والإطلاق لأحدث المنتجات والإبداعات التّكنولوجيّة، كما يتيح لروّاد الأعمال فرصاً للتّعاون وتبادل المعرفة وتوسيع شبكة العلاقات المهنية والتّجارية ويوفّر منصّةً للشّركات الناشئة لاكتساب رؤى جديدة وتأمين فرصٍ للتّمويل والتّواصل مع شركاء وعملاء محتملين.
ما يميّز VivaTech أيضاً، المجموعة الواسعة من الأنشطة التي قد لا تكفي الأيام الأربعة للإحاطة بها، لذا يُتاح حضور تسجيل مصوّر لأغلب الفعاليات عبر الموقع الإلكتروني للفعالية وتطبيقها على الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية وذلك للمسجلين للحضور الشخصي، فضلاً عن حشد غير مسبوق لأعلام الصحافة والإعلام التقليدي والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل تغطية مكثفة.
كما في النسخ السابقة، استقطبت الفعالية منذ يومها الأول حضوراً من مختلف القطاعات، بما في ذلك التكنولوجيا والتمويل والرعاية الصحية وتجارة التجزئة والنقل والإعلام. ولعل أبرز هؤلاء، العام الماضي، كانا مارك زاكربيرغ وتيم كوك. وفي حين تطول قائمة رواد الأعمال والمدراء التنفيذيين للمشاريع الصغيرة، المتوسطة والضخمة ممن يحجزون لأنفسهم مكاناً على قائمة المتحدثين لمشاركة رؤاهم وخبراتهم حول أحدث التوجهات والتحديات في عالم التكنولوجيا، فسُتطبع نسخة هذا العام بمشاركةٍ من إيلون ماسك، ويُنتظر حضور ما يزيد على 4000 شخص لمداخلته التي يترقبها كُثر يوم اليوم الجمعة، في قاعةٍ كانت شاهدة في سنوات مضت على مداخلات مؤسس شركة «آبل» ستيف جوبز، كما سيولم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على شرفه، آملاً أن يقع اختياره على فرنسا لإنشاء مصنع مستقبلي لسيارات «تسلا».
وفي حين أنّ انتشار الصور والفيديوات المزيفة التي يجري تصميمها بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي تثير مخاوف المختصّين وغير المختصّين على السواء، لقدرتها على التأثير في الرأي العام والتلاعب به، ومع تصاعد الأصوات المنادية بوقف تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي ريثما يُصار إلى تنظيمها بشكل أفضل بموجب القانون، فقد حذّر الرئيس الفرنسي الذي يواظب على حضور الحدث من مخاطر خروج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة وتحوله إلى سلاح دمار شامل، وشدّد على أهمية تنظيم الذكاء الاصطناعي من دون إعاقة الابتكار.
إلا أنه وفي حين تجري حالياً مفاوضات لصياغة قانون للذكاء الاصطناعي المستقبلي في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، فإن السيناريو الأسوأ بنظر ماكرون هو أن تنشغل أوروبا بوضع اللوائح التنظيمية لهذا القطاع على حساب مزيد من التقدم فيه، أو تُكرس موارد للاستثمار لا ترقى إلى تلك التي تُكرسها أميركا أو الصين. رغم سهولة انحراف مسار العمل لصالح هذا السيناريو برأي ماكرون، إلّا أنه حرص على التأكيد أنه سيعمل للحؤول دون الوصول إليه، داعياً إلى شراكةٍ مع القوى الفاعلة الرئيسية في المجال لتحقيق هذه الغاية، وهو ما أكد عليه وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، داعياً المعنيّين في الاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار والاستمرار في الابتكار في الذكاء الاصطناعي للحفاظ على اكتفاء أوروبا واستقلالها في هذا القطاع.
وفي هذه المناسبة، أُعلن عن مصادقة البرلمان الأوروبي على مسوّدة لائحة للذكاء الاصطناعي تهدف إلى تنظيم وحماية الابتكار في هذا المجال. ومع ذلك، لن يتأتى لمشروع القانون هذا الدخول حيّز التنفيذ قبل عام 2026.
أما نائب رئيس مجموعة «ميتا» ورئيس علماء الذكاء الاصطناعي فيها، يان لوكان، فقد عبّر عن تفاؤله حيال التطور السريع لهذه التكنولوجيا. لوكان، الحائز على جائزة Turing المرموقة عام 2018، يقود حالياً مختبر «ميتا» للذكاء الاصطناعي، وباعتقاده، لن يطول الأمد قبل أن يتسنى لكل شخص الحصول على مساعد شخصي يعمل على الذكاء الاصطناعي، لربما سيكون أكثر ذكاءً من قرينه من البشر، لكنه ــ بحسب قناعة لوكان ــ سيكون مطيعاً وحَسَنَ النية، ولا يشكل أيّ تهديدٍ للبشر. وأكد لوكان أهمية توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي لخدمة الصالح العام، رافضاً المخاوف من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستحاول غزو العالم لمجرد أنّها أكثر ذكاءً من الإنسان، مشيراً إلى أنّ امتلاك الذكاء لا يعني بالضرورة امتلاك الصفات القيادية.
ولعل أفضل صياغة لهذه الرؤية ــ التي قد يختلف معها كثيرون، أقله راهناً ــ جاء على لسان الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة «Edenred» العالمية المتخصصة في حلول الدفع ذات الأغراض المحددة للشركات والموظفين والتجار وإليها يعود ابتكار فكرة قسائم بدل الطعام للموظفين عام 1962، برتراند دومازي: «قد تتفوق الآلة على الإنسان. بيد أنّ إنساناً امتلك آلة يتفوق بلا شك على الآلة.» وحدها الأيام كفيلة بإثبات صواب هذه الرؤية من عدمه.
دافع لوكان عن الذكاء الاصطناعي المتاح للجميع (Open Source) بنموذجٍ مشابهٍ لـ «ويكيبيديا»، إذ يرى أنّه لكي يبقى الذكاء الاصطناعي تحت السيطرة، يتعين أن يخضع للتدقيق والتحكم المستمر من قبل مجتمعٍ واسع، متطلعاً إلى يومٍ تغدو فيه هذه الأنظمة شفافة وجديرة بالثّقة، بل مهداً للمعرفة البشرية.
يقر لوكان بأنّ تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتاحة للاختبار من قبل العموم حالياً بسيطة للغاية، وهي مدربة بشكل أساسي على النصوص، لذا فهي تفتقر إلى الفهم الحقيقي للعالم. ولتخطّي هذه العوائق، تعمل «ميتا» على بنية جديدة للذكاء الاصطناعي تسمى Image Joint Embedding Predictive Architecture (I-JEPA)، ترتكز على المعالجة الحاسوبية للصور المجردة لخلقِ نموذجٍ داخلي للعالم الخارجي.
في زاوية أخرى من المعرض، شهد القسم المسمى «متنزّه المدينة الذكية والتنقل» العرض الأول في العالم لدراجة VERGE، التي أنعشت المشهد بتصميمها الأنيق ومحركها الكهربائي الذي يعد ثورةً في عالم التنقل، تماماً كما كان تطوير العجلة يوماً.
وعلى مقياس أكبر، فإنّ الحفاظ على القطارات في أفضل شكلٍ وأداء لخدمة الركاب يعدُّ أحد الهواجس المحورية لمشغّلي السكك الحديديّة. وعليه، أتاح المعرض التعرف إلى كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي وأنظمة المراقبة الحاسوبية وعلم الروبوتات لتحسين جودة عمليات الفحص وزيادة السلامة وضمان موثوقيّة الأسطول واستمراريته.
إلى جانب ذلك، يحتضن VivaTech على مدى الأيام الأربعة عدداً من التحديات التي يُطلب فيها من الشركات الناشئة تقديم حلولٍ مبتكرة لمشكلاتٍ مختلفة يواجهها قطاع التكنولوجيا، فضلاً عن العديد من المسابقات وحفلات توزيع الجوائز لتكريم الشركات الناشئة والابتكارات الاستثنائية، والمنتجات والتقنيات الرائدة في مختلف المجالات، والتشجيع عليها وتحفيز أصحابها، ومنها جائزة Next Unicorn أو «وحيد القرن التالي» (مصطلح يستخدم للإشارة إلى شخص أو شركة ستصبح ذا قيمة عالية) التي تمّ الإعلان عن الفائزين فيها خلال اليوم الأول.
قد يراود بعض الشغوفين بمجال العلوم والاكتشافات أنه قد فاتهم قطار الإبداع، إذ لم يعاصروا أيام ألبرت أينشتاين، صاحب النظرية النسبيّة، أو توماس إديسون، مخترع المصباح الكهربائي، أو الأخوين رايت، اللذين عملا على تطوير وبناء أول نموذجٍ للطائرات يُدار بالمحرّك، والإقلاع به، والقائمة تطول بما لا يتسع لهذه السطور حصره، إلا أن الأكيد أن منبع الذكاء والإبداع البشريّين لم ينضب بعد. ولعل الحماسة المرافقة لمعاصرةِ ثمرات ثورة التكنولوجيا التي نشهدها اليوم تضاهي الحماسة التي اختبرها من عاصر أيام العظماء، لانحصار الدراية بنتاجهم الفكري والإبداعي بالمجتمعات الضيقة للنخب. أما اليوم، ومع ثورة الاتصالات وفوعة أقنية التواصل التي تُرافق ثورة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بل وتَنحتُها، لربما سنكون نحنُ محطّ غبطةٍ من قبل أينشتاين وإيديسون والأخوين رايت أنفسهم.