ليس خفيّاً على كلّ متابع لأحوال الصحف في لبنان، أن أبرز ما أنتجته التحوّلات الثقافية منذ العام المنصرم، وتحديداً منذ تاريخ 17 تشرين الأول وما أرساه من متغيرات، هو انبثاق جرائد ومجلّات ورقيّة لم تكن موجودة من قبل. والظاهر أن سردية موت الورقي، قد تَبيّنَ أنّها مرتبطة بجيلٍ تمرّس في الصحافة على مدى عقود، واكتشف الإنترنت مندهشاً؛ فأغلب من ترعرع في العالم الافتراضي واختار الصحافة مساراً، ظهر أنه متمسّك بالطباعة الورقية كوسيلة ضروريّة تُجسّد كيفية تقديمه لمواده، شكلاً ومضموناً. إنها حاجة للتعبير والظهور طافت إلى السطح تزامناً مع الحدث الذي اندلع في 17 تشرين الأول 2019 أو تباعاً له، اتخذت إطاراً خاصاً، تجسّدت في خلق منابر مستقلة تُقدم مساحة متوافرة لإلقاء خطاب يفصح عن الظروف القائمة، بطريقة تتماشى مع ذاتية الكاتب وموضوعاته. هذا الخرق للمشهد، يبدو ثقباً صغيراً في جدار الجمود الإعلامي الذي اتّصف بالركود لفترات طويلة، ما يمكن اعتباره انتصاراً صغيراً على وَقع الأزمات وتداعياتها التصاعدية. تجارب متعدّدة ومختلفة تجمعها خلفية واحدة: لا أحد يعتبر نفسه بديلاً. بعضها اهتمّ بتقديم خطاب جديد شكلاً ومضموناً، والبعض الآخر وضع رسالته المبتغاة أولوية، غير آبه سوى بحرية البوح، والتغريد في سربٍ جديد، فمقارعة الواقع ورفضه لا يحتاجان إلى استقلالية ذهنية فحسب، بل يشترطان توافر منابر مستقلة جديدة تناسب الحالة، تخلق خطاباً، تحتويه وتضمن وصوله.
17 تشرين
سيكون خراباً

لم يلبث حراك 17 تشرين أن دخل في شهره الثاني حتى ظهرت صحيفة تحمل اسمه وتُوّزع مجاناً في كل المناطق اللبنانية. أفرزت المظاهرات حاجة ملحّة للتواصل والتعبير لم يكن عالم التواصل الاجتماعي كافياً لإبرازها. كان لا بدّ من خلق منصّة تتماشى مع مجريات الحدث من زاويته الخاصة، تنقل خطاب الحالة من دون رقابة أو اختزال بل بحريةٍ تامة، وتحوّل الهتافات الساخطة، المندّدة بالسلطة من الساحات إلى الفضاء الإعلامي. ولدت 17 تشرين في هذا الصدد، جريدة تصدر شهرياً معتمدة الصيغة الورقية ومتوافرة إلكترونياً. اتفق القيّمون عليها على جعلها ميداناً مفتوحاً للتعبير، وسيلة ضغط إضافية تكرّس غضب الشارع وتعزّزه من خلال كتابة تطوّعية لكلّ من له رأي في المجريات القائمة، مع تمويل يرتكز إلى التبرعات والمساهمات لجميع من يرى في هذا الحدث طابعاً فريداً، يحتاج إلى إعلام خاص.


سرعان ما أُطلق على 17 تشرين تسمية «جريدة الثورة». «من الطبيعي أن تأخذ الجريدة هذا الطابع، وهي ليست بعيدة عنه أصلاً. في الفترة الأولى، طغت الروح الثورية ومشاعر الغضب على الكلّ تقريباً، كنّا بمثابة الناقل لكل ما يجري» يوضح بشير بو زيد رئيس تحرير الصحيفة. بيد أن هذه التسمية تلخّص هوية الجريدة أو ما يطمح القيمون عليها لأن تكونه. إلّا أنّ من الضروري ربط تسميتها أيضاً بعنوان نلك المرحلة وما شهدته من عواصف احتجاجية ورغبة في تحدّي الأمور عند المتظاهرين والمحتجّين، وقد تم اختصارها بعنوان «الثورة». فجريدة 17 تشرين ليست منشوراً حزبيّاً أو صحيفة تحمل في طياتها آفاقاً إيديولوجية، بل هي منصّة صحافيّة مفتوحة للأصوات المعارضة الصادحة، تستقبل مقالات سياسيّة من كتّاب هاوين وصحافيين مختصين، مع قسم آخر يهتمّ بتوثيق أبرز ما جاء من أحداث منذ تاريخ 17 تشرين حتى اليوم. إنها تعكس التنوّع الموجود في الساحات والاختلاف في وجهات النظر مع الاتفاق على مسألة جوهرية، تشكل المسار التحريري للجريدة: رفض السلطة السياسية وحكمها القائم. إنهما رهانٌ وموقف شَكّلا تحدياً للجريدة، بأن تجذّر هذا الخطاب وتكون محطة أساسية في إبراز الجانب الآخر من المزاج العام، ذلك القادم من الصعيد الاجتماعي التحتي وليس من قِبل أحد مرتبط بموقع المسؤولية العامة؛ «من الأهداف الأولوية عندنا أن نكون جزءاً من المبادرات التي تجهد لإثبات نفسها وتؤسس تياراً صحافياً مستقلاً مُضاداً للارتهان الإعلامي الموجود، ويعكس الخطاب المعارض غير المألوف ويضمن حقه في أن يكون مُرسلاً». لحظة فاصلة أعطت «17 تشرين» زخماً وصفعة في الوقت عينه: نتكلم عن العدد الثاني الذي أتى عنوانه مقطعاً من قصيدة مظفر النواب «سيكون خراباً». استطاعت الجريدة هذه المرة أن تعطي توصيفاً للأحداث على عكس الوجه الذي استمدّته منه، ليصبح هذا العنوان الرئيسي، صبغة المرحلة، خصوصاً ما جسده توتّر الأحداث لاحقاً، والمواجهة التي حدثت لاحقاً في ما سمّي «ليلة المصارف». لم تَسلم الجريدة من الانهيار الاقتصادي الكبير الذي تضخم وحلّ بلاؤه على البلد، إذ قام مصرف «فرنسبنك» بحجز أموال المتبرعين والداعمين لها، ما جعلها تتوقّف عن الصدور بعد عددها الرابع، لمدة أربعة أشهر تقريباً، قبل أن تعاود الظهور في عددها الخامس في حزيران (يونيو) الماضي وتستأنف النشر. بالنسبة للحاضر، فالوضع مختلف بالنسبة إلى جريدة «17 تشرين». «لم تعد الأعداد الأخيرة بنفس الزخم «الثوري» الذي كانت عليه أعدادنا الأولى بسبب الظروف المتغيّرة، ولأننا بتنا نرى أن هدفنا أيضاً أن نكون مشاركين بشدة في تكريس تنظيم مُعارِض مستعدّ للمواجهات السياسية، ما يتطلب دعوة إلى العمل والتنظيم» يقول بو زيد الذي يأمل أن تترسخ هذه المبادرات وتبقى الجريدة مستمرة.

● متوافرة ورقياً، موقعها على الإنترنت: 17teshreen.com

«رحلة»
تثقيف السياسة وتسييس الثقافة

«تجريبية، سفلية، حرّة» هكذا تعرّف «رحلة» عن نفسها. المجلة التي توقفت عن الصدور لمدّة ثماني سنوات تقريباً، وجدت في 17 تشرين فرصة لمعاودة الانطلاق. ««17 تشرين» بما أحدثته من خلط أوراق وتغيير لرتابة السائد كانت محفّزاً لنا، أو نقطة الانطلاق لاستكمال مسار المجلة بعد جولات عديدة من التفكير والنقاش حيال هويتها» يقول حرمون حمية رئيس تحريرها. يُعتبر كلّ من العامل الثقافي والنظري ركيزتين أساسيتين لهذا العمل. فالمجلة التي يعرّف القيمون عليها أنفسهم بأنهم «منشقّون عن قوى أمر الواقع»، يجدون أن من الأقرب لما يتطلعون إليه أن يتعاملوا مع تجلّيات الظواهر وإفرازات الحدث من خلال حصرهما في مفهوم أو «ثيمة» عوضاً عن التصويب المباشر أو الغوص في المسار التقليدي. «رحلة» التي نتج منها 10 أعداد حتى الآن، تصدر شهرياً، ورقياً وإلكترونياً منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2019، يأتي كلّ عدد حاملاً موضوعاً معيّناً، يأتي استشفافاً للحسّ العام ومحاكاة لقضايا تشغل كتابها.


تتثبت هذه الثيمة/الموضوع بعد رفدها بكل ما يلزم من حيثيات لإمساكها، والدخول من أطرافها بعد التشبع من جذورها، ثم تأتي المعالجة بالتصدي لها وسماع أصدائها في التجربة الحياتية للكاتب، كما يبدو ذلك من خلال الأعداد كافة. يلج كتاب العدد من خلالها إلى التفكيك والخلوص إلى نقل تجاربهم عبر الأسلوب الذات-موضوعي وتصبّ معظم كتاباتهم في فلك تجريبي، بما يحمله هذا المجال من مغامرات لغوية وفكرية، ومقاربات نقدية حية مستمدّة من التجربة الذاتية، بالإضافة إلى تعبير هادف ومصوّب، مخترق لحدود كل ما هو نظري. فممارستهم لمشروعهم في نهاية المطاف تأتي كما يقول حرمون حمية: «تثقيف السياسة وتسييس الثقافة». مع ذلك، فالمتتبّع لمسار نشر المجلة، يجد أنها توقفت عن الصدور ورقياً لمدة ٦ أشهر. يعزو التحرير سببه إلى العامل المادي الذي واجهته المجلة، بالإضافة إلى جائحة كورونا، لكنها استكملت في تلك الفترة النشر إلكترونياً مع إضافات في الأقسام. والجدير بالذكر أن المجلة فتحت أخيراً باب التبرع عبر موقع «باتريون» لدعم النسخة الورقية من قبل جمهورها، خطوة لتكملة المسار المستقل. لا يعتبر حرمون حمية أنّ بالإمكان تصنيف المجلة كصحافة بديلة وليس هدفه. «لا مرادف لنا لنحل مكانه. أصلاً البديل يتحوّل مع الوقت عبر عملية التسليع والتطويع إلى سائد. لذلك قررنا أن نبقى سُفليين، أي منحازين لمن هم تحت، أو الهامشيين». لكن ما يعتبره الهدف الأساسي ضمن غاية التجريب هذه، هو خلق وسيط جديد يتلاءم مع هوية المجلة. وهذا ما اعتمدوه في الأسلوب المتّبع، خصوصاً في القسم الأول، فيما يسمونه بـ «كلمة السر»، حيث يتماهى الكاتب مع نصه، الذي يدعّم جنسُهُ الأدبي هو الآخر، ما أسموه بـ «المقال/ القصة». وسيط جديد وجدوه كتعبير حقيقي غير استعراضي. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل تتردّد في كل عدد، أشكال عدة ليس آخرها المُعَنون «جغل بيزنطي»، وهو عبارة عن مقابلات خيالية مع أحد المفكرين المفارقين للحياة حيث يقومون بإسقاط نظرياته على ما هو راهني كأنها عملية تدخل في المسائل الراهنية من بابها النظري تجسّد موقفهم المرجوّ حيال كل عدد.

● متوافرة ورقياً، موقعها الإلكتروني: rehlamag.com

الخندق
الالتزام بوصلة المواجهة

«الخندق» واضحة. الجريدة الشهرية التي صدر منها 6 أعداد حتى الآن بشكلَيها المطبوع والإلكتروني، لا تتبنّى الأسلوب الإخباري أو الاستقصائي، بل ترتكز إلى مقالات، أغلبها يأخذ منحى نظرياً في التقديم والعرض وتندرج مواضيعها حسب الأقسام المتوافرة في الجريدة، بالإضافة إلى بعض التقارير القصيرة الموجهة في الغاية والهدف. تعمد «الخندق» إلى تعريف نفسها للقارئ في الصفحة الأولى عند تصفحه موقعها على الإنترنت. «لماذا الخندق؟» افتتاحية مطوّلة أشبه بمانيفستو كتبها رئيس تحريرها بشار اللقيس. استفاضة في الشرح السياسي الذي يتكئ إلى منهجية تحليلية لتبيان صراع القوى وتأثيرها حيث تُختصر الرؤية التحريرية بالتالي: الدولة عبارة عن نظام، والنظام غير مستقل بذاتهِ، هو عبارة عن علاقات اجتماعية سياسية متناقضة تتجلى في جماعاته الداخلية بين القامع/ المركز والمقموع/ الأطراف، كما أنه خاضع أيضاً لموازين القوى المجاورة وتأثيرات واقع محيطه. في هذا الفلك، قررت الجريدة أن تكون لاعباً أساسياً في ساحة الاشتباك، متموضعة في موقع غير محسوب: مع المهمّشين ومنهم.


إنها خريطة الواقع كما قادتهم رؤيتهم التنقيبية للأحداث: منطقة تحكمها الكوارث، خطاب الانهيار هو حديث كل يوم، أزمة الصحافة الورقية تكمن في من قادوها وأرسوها في فضاء البرجوازية وأبناء الأطراف سِلع ثقافية يتداولها أبناء المركز. كل هذه القضايا شكلت ضرورة، لمنبر كهذا، يتصدى لسردية المركز الذي يُجذر البنى ويحافظ على استقرارها في خطابه المعتاد ونمطيته المعتمدة، أن يحضَر. هادي حطيط محرر في الجريدة يوضح التسمية: «لطالما كان الخندق مَصنعاً للأحكام والتصوّرات السلبية التي تتناقلها الألسن. من أولويات مهمتنا أن نزعزع هذه الصورة النمطية المزروعة في الأذهان وأن نرفض هذا الاختزال والتشويه». لكن هناك دلالة مختبئة في هذه التسمية أيضاً، تعكسها حقيقة مادية، أو بالأحرى الواقع الطبقي. الخندق، منطقة شعبية تتشكل أغلبيتها الساحقة من العاملين والفقراء، أو المسحوقين من سلطة الدولة. «إنه صراع طبقات في نهاية المطاف. الاجتماعي والثقافي يدخلان في حيّز السياسي أيضاً ولا بد من المواجهة» يؤكد حطيط. هنا يجب التنويه، الجريدة ليست موجهة لجمهور جغرافي ضيّق ولو حملت اسمه، بل نطاقها شاسع، فكما أتى في التعريف «الخندق ليست صحيفة لبنانية فحسب. هي لبنانية بقدر عروبتها. ووطنية بقدر أمميتها» لذلك إن الهمّ الطبقي وتفرعاته هو نقطة الانبثاق الأولى لهم، وهو جوهر القضية. لم يكن هناك توقيت مناسب للبدء بتنفيذ مشروعهم أكثر من الفترة الزمنية التي أتت بعد 17 تشرين، فالخطاب الذي يحملونه يطال تلك الظاهرة الاحتجاجية ويمسّها في الصميم. «17 تشرين كانت تحفيزاً لنا بأن نطلق هذا المشروع. منذ أكثر من ثلاث سنوات تقريباً كان لدينا، أنا وبعض الأصدقاء، هدف إطلاق منصّة إعلامية تقدّم محتوى مغايراً لما يطرحه السائد. الإعلام عموماً قائم على التسطيح والتعليب، والمواد الصحافية «المعرفية» غائبة، ناهيك بضيق المساحات في التعبير، كنا نريد أن تعبّئ هذا الفراغ، وتحقق هدفنا (بخلق منصة) بعدما حولت مجريات الأحداث؛ هذا الهدف من رغبة إلى حاجة» يقول حطيط. في «الخندق» أنت أمام إعلام منحاز، والانحياز هنا ليس اجتراراً لكلام السلطة وترويجه، ولا صناعة بروباغندا تحوّر الحقيقة لمصلحة خاصة، إنما هو انتماء لقضية، وهذا ليس خفياً، بل واضحاً وضوح شعارها «التزام، موقف، مواجهة». والموقف كما يؤكد حطيط يفرض عليك أن تأخذ طرفاً وأن تُناضل لأجله بالوسائل والقدرات التي تملكها ليبقى صراعك أصيلاً، لا يقع في فخ الاستشراق أو الاغتراب عن الواقع. لذلك فهنالك، بغضّ النظر عن أسرة التحرير، والكتّاب المشاركين، أقلام لها مكانة عالمية في الجهد النقدي والتصدي الفكري لمشاريع الهيمنة مثل سلافوي جيجك أو علي القادري حطّت رحالها في جريدة «الخندق» للمشاركة في الكتابة معهم.

● متوافرة ورقياً، موقعها على الإنترنت: al-khandak.com

18 تشرين
مزاج ساخر مجاني

من الكتابة الصحافية القائمة على الإقناع بأسلوب تقريري وعبر أشكالها التقليدية، إلى الكتابة الإبداعية المتجسدة في المسرح والتي تستند أسلوبياً إلى كسر المعتاد وتوخي أشكال مبتكرة للتعبير، تنقّل جعفر العطار في هذين العالمين حاملاً هاجس التعبير بنمطٍ فريد، يتلاءم مع رسالته ويناسب مزاج العصر. رأى أن أهم ما أفرزته 17 تشرين هو المنسوب الزائد من حرية القول التي لم تكن موجودة من قبل، لكنه لاحظ نقصاً في شكل الخطاب يجب تعبئته. ولدت جريدة «18 تشرين» التي صدر منها عدد ورقي واحد في شهر تشرين الأول (أكتوبر). كتابة كاريكاتورية، ساخرة، كما جاء شعارها «ساخرة، مزاجية، مجانية» مع توصيف فكاهي لم تسلم منه، يطالها أيضاً، تحت العنوان «جريدة الدولة». لا يدعو العطار تجربته هذه بـ «الصحافة البديلة» بقدر ما يكرر إشارته إلى أنها «صحافة تحريضية، تحفّز على التفكير عكس السائد». بشكل جديد، غير مألوف، أَفادَه بأن يصل إلى فكر قارئه عبر قنوات متنوعة، أهمها التحفيز عبر الصدمة، مطيته الخيال الذي يتجسد بدوره في حوارات وأخبار وتقارير خيالية وبعض الالتفاتات إلى الجو الثقافي.


يأتي العنوان الرئيسي للصفحة الأولى «نبيه بري: أنا فقير» مع صورة كبيرة له تضاهي حجمها تقريباً، وهي عبارة عن مقابلة وهمية أجراها القيمون على الجريدة مع شخصية رئيس مجلس النواب حمّلوه مضموناً معاكساً تماماً لما هو عليه. هذا الأسلوب الساخر الذي يعمد إلى كسر المحظور وتحدّي ما هو ممنوع من النقد أو المسّ «كان كافياً لإيصال الرسالة من دون قراءة المضمون بعد» كما يقول العطار. الأخير، تمكّن من الحصول على وسيط جديد لنقل ثورته الخاصة، مجسّداً تجربته الصحافية والأدبية في مشروعه: جريدة «18 تشرين». إنها السخرية بأساليبها المتنوعة التي تبنّاها، ووظفها من خلال: المفارقة، تحوير الأحداث، التناقض الفاضح، والتفكّه المباشر. كل ذلك من دون الوقوع في فخ «التهريج»، فعلّة هذا الأسلوب يعود مرّده إلى إفراط في الجدية لكن بوجهها المُعاكس، وهو خيط رفيع لا يجب تجاوزه. هذه الوجهة واضحة على مدى الصفحات، إنْ كان عبر دقّة الموضوع، أو كأن يدلّ في المباشر، في تنويه ذيّل الصفحة «إن المقابلات والتصريحات الواردة في هذه النشرة غير حقيقية ويطالب فريق عمل ١٨ تشرين القضاءَ بتوقيف سارقي المال العالم قبل التحقيق معنا»، فهم كمن يعرف أين يمكن أن يفضي مصيره بشكل سيئ، مع عدم التنازل عن الحقوق الجوهرية، حق التعبير بالطرق الممكنة، والإبداع الصادم المضاد لسرديات السلطة بشكل عام. والجدير بالذكر أن السخرية لم تكن فقط في المقروء، بل شملت المرئي، من صور مختارة تدعم موضوعها، وتزيدها تفكّهاً. «إنني أتوجه في 18 تشرين إلى كل من لم يكن صديقاً للصحف الورقية عادة، للمتحزبين المتعصبين ولغير التابعين لأي جهة» يلخّص العطار توجه جريدة وجمهورها. جعفر العطار اختار النشر الورقي رابطاً إياه بأسلوب الجريدة نفسه. فبما أن الصدمة والتحفيز عبرها هما الهدف، فإن القارئ المعتاد على قراءة الأخبار الحقيقية في الصحف الورقية، ستكون صدمته أشد بقراءته خبراً خيالياً ساخراً في المجال الورقي كذلك، ما يجذب قراءً جدداً إلى هذا المجال، مضيفاً «اتفقنا مع المساهمين كما فعلنا قبل انطلاق ١٧ تشرين، على أن المساهمات غير مدفوعة». مع ذلك، فالجريدة بفوضويتها التعبيرية الساخرة تخضع لشرط المزاجية كهدف للتفريغ عن فجاجة الواقع، أكثر من حملها رسالة سامية تخلف وراءها صوتاً إرشادياً، يقول هذا حق... هذا باطل.

● تصدر ورقياً، غير متوفرة إلكترونياً

الجنوب
المعارضة حق ديمقراطي

واحدة من أبرز السمات الاجتماعية التي تميّز بها حراك 17 تشرين هي لا مركزية الاحتجاج. الانخراط المباشر في رفض ممثّلي السلطة ورموزها في كل منطقة. ويمكن اعتبار أن المناطق حيث كان الصوت الرافض للسائد الجارف صامتاً، مغيباً عن ساحة صناعة القرار، كانت الأكثر فعالية في المشاركة، والجنوب كان عنصراً فاعلاً أساسياً في تلك التحركات. جريدة شهرية حديثة النشأة متوافرة ورقياً وإلكترونياً، صدر منها عددان حتى يومنا هذا، حملت اسم «الجنوب»، يتألف مجلس تحريرها من حسان الزين، سعيد عيسى وهشام مروة، دخلت على الخط، بدعم مادي من أصدقاء مستقلين يشاركونهم تطلعات مماثلة، مستقطبة آراءً معارضة للسلطة السياسية، لتكون امتداداً للحالة المعارضة التي كرستها أحداث 17 تشرين.


على غرار جريدة «الخندق»، لا تتوجه «الجنوب» إلى جمهور مناطقي معيّن، إنها كما تعرّف عن نفسها «صوت لبنان في الجنوب، وصوت الجنوب في لبنان». تقارير متنوعة تطال ما حققته التغييرات التي دخلت على المشهد السياسي اللبناني، مثل انتخابات الجامعة الأميركية، أو تقفي آثار ما أفرزه حراك 17 تشرين مثل مقابلة مطوّلة مع نقيب المحامين ملحم خلف شكلت محتوى الجريدة، عدا عن مقالات سياسية منها لصحافيين مخضرمين وأخرى لكتّاب مبتدئين. قضيتان أساسيتان شكلتا أبرز ما جاء في جملة الأهداف التي تسعى «الجنوب» إلى إنجازها: إبراز التنوّع والاختلاف وتوفير مساحة لتطلعات الشباب وآرائهم لبناء معارضة. وفي هذا، اقتناع راسخ بضرورة العمل استناداً إلى الأدوات والمسارات التي يفرضها الفضاء الديمقراطي القائم. فالجنوب، «منبر وطني، حر، مستقل» كما يعرّفه القيّمون لا يبغى أن يكون في موضع مواجهة مع النظام بشكله الكلّي، في نهجه وتشعباته، بل أسلوبه معتدل، يتّكل على منسوب التعبير الحر المتوفر والمسموح ليناكف الاستراتيجيات وطرق الإدارة التي تمارسها السلطة. فمهمتهم ليست التصويب على مركزية النظام بعينها بقدر ما هي خلق معارضة للسلطة لاعتبارات ديمقراطية حيث لا يكتمل مناخ الأخيرة من دون حق الاختلاف والتعبير عنه، أي العمل من الداخل، في إطار هذا النظام، بلغته وأدواته. وعليه، تعمد «الجنوب» بمحاذاة النشر، إلى ممارسة اختلافها السياسي وحقها في التعبير تطبيقياً، من خلال تنظيم ورش عمل تتجسد في جلسات حوارية ومحاضرات حول مسائل متعلقة بالراهن اللبناني. أتى العدد الثاني من الجريدة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) تحت عنوان «هذه حياتنا ونريدها» وفيه تحقيق عن أحوال الشباب اللبناني وواقعه، تغطية لنشاطات مجموعات مدنيّة ومقالات سياسية، ما شكل مساراً تحريرياً مغايراً للعدد الأول الذي احتوى على مقالات بحثية وتاريخية تطال أحوال الجنوب، مشاكله وأزماته من كتّاب كانوا قد نشروا سابقاً هذه المواد في أماكن أخرى.

● ajjanoub.wordpress.com

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا


،