ظهرت رواية العراب The godfatherمن تأليف الكاتب الأميركي ماريو بوزو في عام 1969 كمحاولة رياديّة في عالم الأدب الواقعي. لقد تجرأ الكاتب ـــ ومن بعده المخرج فرانسيس كوبولا الذي أخرج الرواية في الفيلم الشهير الذي حمل العنوان نفسه ــ على النزول بالأدب إلى العالم السفلي، منشئاً اتّجاهاً أدبياً كاملاً سيزدهر كثيراً لاحقاً في الأدب والسينما والفن هو أدب «العالم السفلي» the underworld literature. لقد سلط الضوء للمرة الأولى وبهذه الجرأة على عالم الجريمة المنظّمة والمافيا والعصابات، راسماً مشهداً داكناً شديد السواد عن طبيعة هذا العالم وقواه المحرّكة وقواعد سلوكيات أفراده وأبطاله وشخصياته. هذه كانت مهمّة هذا الأدب أو هذه كانت رسالته التي يحملها: رسم صورة واقعيّة لعالمٍ قذر ومتوحّش. تصوير أبطاله عن قرب، والدخول في تفاصيل حياتهم اليومية الشخصية والعائلية، وفي ممارستهم لعملهم اليومي الذي هو على درجة عالية من الحيوانيّة وانعدام الإنسانية. إنّه يصنف ضمن نطاق «الأدب الوحشي» Brutal literature. عرض حيّ وسينمائي لظاهرة «حيونة الإنسان» كما كان ممدوح عدوان قد سماها. نحن هنا أمام عرض وتشريح لجانب من أشدّ جوانب الرأسمالية المعاصرة إظلاماً من دون تجميل ولا مثاليات، بل بكل واقعية: هؤلاء هم وحوش عالم الجريمة المنظمة التي لم تزدد إلّا اتّساعاً وقوة ونفوذاً مع تقدّم وتطور المجتمعات الرأسمالية. بذلك، تلخّص مهمة فن وأدب «العالم السفلي»: عرض موضوعي ومتجرد لحيوانية عالمٍ متوحّش من دون مجاملات، على الطبيعة! إنها واقعية معاصرة وقاسية، تصوّر عالماً غدا شديد الشراسة والضراوة، وفرض مزيداً من التوحش على أفراده الذين باتوا مشوهين. مشوهين إلى درجة أن الدعارة والقتل والقمار والجريمة المنظمة والابتزاز والمخدّرات كلها باتت أموراً طبيعية، لا بل ضرورية لسير أمور «العائلة» وتنظيم شؤون العمل والمصالح. إنّها أدوات في عالم السلطة الحديث! لاريب أن بوزو ومن بعده كوبولا نجحا في تصوير هذا العالم إلى حدّ بعيد. لقد كان عملهما بمثابة ضوء كاشف جديد مسلّط على شناعة عالم متنامي التضخّم في المجتمع الرأسمالي الحديث هو عالم الجريمة المنظمة. إن عملهم إشارة تحذير، وإشهار فضائحي وتشهير علني بعالم لطالما كان التكتم عليه هو القاعدة. ويمكن القول باختصار إن هذه هي رسالة أدب العالم السفلي عموماً، ومهمته الفنية والاجتماعية سواء.
فما الذي حصل مع فن «العالم السفلي» لدينا نحن العرب وفي إنتاجاتنا الدرامية والفنية التي تتّجه هذا الاتجاه؟ كيف انقلبت القواعد وانعكست القيم بكل هذه الجرأة والصفاقة؟ إننا هنا لسنا أمام فنّ واقعيّ يكشف ويحلل ويوضح لا بل «يعرّي» عالماً مُزرياً قذراً كما يجب أن يكون! لا بل أمام أعمال إنتاجية مضخمة ومنفوخة نفخاً اصطناعياً، مسخّرة بشكل كامل للإشادة والتلميع بواقع عالم هو ليس إلّا الذروة المتطرفة لفظاعات الرأسمالية وقباحاتها، مع جهد جهيد لتصوير «زعرانه» على أنهم «أبطال»، وحملة مبادئ وقيم، لا بل أصحاب رسالات وفعلة خير!
عند كوبولا حيث تُعرض الكاركتيرات في قسوتها وضراوتها كنماذج للتحذير الاجتماعي والفضح عبر رؤى درامية وإخراجية متقدمة، نجد هنا فناً واقعياً رفيعاً نسبياً قيد التقديم. نجد في مقابل ذلك أنّ أعمالنا المحلية والعربية حول أدب العالم السفلي، أقلّ ما يمكن وصفها فيه أنها تجارية، تبلغ ذروتها في إنتاجات مسلسل «الهيبة» خصوصاً ومجمل نتاجات شركة «الصباح» عموماً. منافسة لا بل حرص على تكريس «نجومية» البطل الذي يجب أن نحبّه ونعجب ونتعاطف معه بوصفه مثلاً أعلى ونموذجاً لا بل قدوة حسنة، خاصة للفئات العمرية الشابة المراهقة. فيتحوّل التشهير وتسليط الضوء إلى تسويق. تسويق وتشريع لوجود هذه الفئات المتطرفة. بحسب المنطق الأعوج لهذه المسلسلات التي يخرج بها علينا كتّاب مثل السيد عكو أو السلكا أو البرقاوي، فإن «أبطال» هذا العالم معذورون! لقد اتّخذوا طريق العصابات والتشليح والمخدرات بسبب «إهمال الدولة»، لا بل في بعض الحالات لأسباب رومانسية بحتة، مثل مسائل الشرف والثأر وغيرها من السخافات التي يطرشونها في أعمالهم الضحلة هذه.
لا تعتقد أن كلّ الزعران زعران عزيزي المشاهد! لا... فهناك «مهربجي» شريف وcute ويجب أن تحبه ولا مشكلة حتى إن اقتديت به، وأنت محظوظ إذا تشرّفت بالعمل معه. في المقابل هناك بعض هؤلاء الخارجين عن القانون «زعران» فعلاً، هم الذين لم يرضَ عنهم المخرج لأسباب لا نعلمها. طبعاً كلّ ذلك معروض في سياق درامي جدير بأفلام الرسوم المتحركة، والكاوبوي كصراع لـ «خير» ما ضد الشر!
ما الذي حصل مع فنّ «العالم السفلي» لدينا نحن العرب في إنتاجاتنا الدرامية؟


إنها عملية تلميع اجتماعي مدعومة بحملات تسويقية وإنتاجية ضخمة، لصورة بيئة هي ذات أثر تخريبي مريع على جميع الصعد والمستويات، مثل تخريب الاقتصادات الوطنية وعمليات التهريب التي تنخر في بنية اقتصادات المنطقة كما السوس الذي يفرغها تماماً من أي محتوى إنتاجي أو تجاري، أو كما السرطان الذي أنهكها وصولاً إلى نقي العظام، أو على مستوى الطائفية والعشائرية وإثارة النعرات وطبيعة الزعامات فيها، فكل بيئة تهريب في كل بلد نجدها قائمة على أسس قبلية واضحة ذات أثر مدمر أكيد على أي سمة من سمات المجتمع المدني...
بالنسبة إلى المشرفين على هذه الأعمال الصعبة على الفهم، لا يوجد «أبطال» في المجتمع لعرض نماذجهم والترويج لقيمهم، لا في فئات وشرائح المثقفين ولا الأكاديميين، ولا المناضلين الوطنيين، ولا الفنانين، لا بل هم حصراً موجودون في بيئة المهربين وسادة المعابر وزعماء العصابات!
في هذا النوع، لا يتم اتّخاذ بيئة المهربين وقاطعي الطرق كـ «مسرح» درامي لفضح وتعرية هذه البيئة وتصوير حقيقتها القذرة ودورها المعادي للمجتمع وللتقدم ولأيّ شكل من أشكال الحضارة الإنسانية. لا بل يعملون بشكل تهريجي خالص على عرض نُبل وشرف وشهامة (!) هذا العالم وهذه البيئات بسذاجة مطلقة. لكن هل هي سذاجة فعلاً؟ أم لعل الأجوبة العميقة دوماً ما تَبلُغ الأجندات السياسية؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا