في «مرايا فرانكنشتاين»، يروي عباس بيضون ما لم يتجرّأ على روايته أيّ كاتب أو شاعر من جيله. إنّه كتاب يشبه سيرة ذاتية، لكنّها سيرة لا تشبه أي سيرة أخرى. لا المثل العليا الكاذبة تحتلّ كامل المساحة، ولا صاحب السيرة يخرج علينا كأنّه «سوبرمان» قادم من الجنة. من جهته، يبدو بيضون كالخارج من الجحيم، جحيم الآخرين، وتبدو «مرايا فرانكنشتاين» انعكاساً لحياته العجيبة في كشف وتعريةٍ للذات.إنّه كتاب مرعب عن تناقضات الحياة وظلمها وقسوتها وآلامها. يبدو صاحبه رجلاً مفصولاً عن العالم برمّته. إنّه حكاية رجل مقبلٍ على اكتشاف نفسه باستنكار. «لم أعرف متى بدأت أكره هيئتي، كنت طفلاً جميلاً بشهادة أمي، لكن مع المراهقة بدأ يخرج عن الملامح اللطيفة عكسها. طال الوجه حتى غدا كالحذاء. وتضخّم الأنف وقسا الشعر حتى غدا كالبلّان»، يكتب.
في هذه المواجهة الحادة مع الذات، مع النفس، يرى بيضون ولا يرى. كأن لا شيء ينطبع في خياله: «لا البحر، ولا الأنهار، ولا الجداول في البساتين. لم أكن أرى. في الحقيقة لم أكن أشعر، لم أظنّ مرة أن عليّ أن أحب أو أكره ما يحيط بي. كنت ألبسه بدون أن أعرف وبدون أن أنتبه. كنا واحداً إلى الدرجة التي لا يمكنني فيها أن أراه. كان موجوداً أمامي ولا يحتاج إلى أن أنظر إليه. لا يسأل عن رأيي فيه، وأنا كنت أدور في هذا المكان بدون أن أمسّ به. أعبره بقدمي فقط، ولا أعيره أي شيء آخر. كانت في الغالب غفلة شاملة».
والخيانة لها نصيب من جحيم«مرايا فرانكنشتاين»: «كنت ألعب فحسب، أتمتع مع الكل ولا أكنّ، إلا في النادر، عاطفة خاصة لأحد، كان ما يفاجئني من نفسي أن تقلق على صديق أو تشتاق إليه. غرامياتي كانت هكذا أيضاً طيارة، ولا تأنف من الجمع بين أختين. لم أفهم كيف تأرّقت حين شاهدت صديقتي تعانق آخر على مقعد البوسطة، عند عودتنا من الرحلة، لم أستطع أن أصرف عيني عن ظليهما وهما يتواصلان في عتمة الغروب. كنت أبعدتها عني في الصباح بفظاظة، ولم أرض أن أشاركها سريري في الليل، إذ لم أكن أحتمل ألا أكون حراً في فراشي».
يحكي عباس كيف طغى عليه شعور بأنَّه طفيلي، وطارئ، ومفروض على الجو. يغالب هذا الإحساس الذي يغالب راوي السيرة باستمرار، وخصوصاً خلال لقائه مع الآخرين. «عرفوا أنّه أنا ما إن سمعوا الجرس، ثمة من قال من بين أسنانه «هيئتوا إجا»»، يكتب. بكلمة واحدة أدرك عباس أنّه غير مرغوب فيه.
إزاء هذا الثقل اليومي الذي يعيشه بيضون، يبدو أنه وصل إلى كره كل شيء، حتى الموسيقى العربية والسينما المصرية والتلفزيون، والفولكلور، والأعياد، والرقص، والعائلة، والأقارب، والطائفية، والمطبخ، والأزياء، والأعراس، والأفكار، والتعابير واللهجات والأدب و«كل شيء وجدته أمامي». كأنّ الكتابة وحدها جعلته يستمر.
(*) أديب سوري