يغصّ شارع الحمرا البيروتي بالحكايات والمفارقات على مدار الساعة. أجواء الضجيج والصخب، والرغبة الجامحة بالحياة يجدها العابر في الشارع الطويل، مرتسمةً على وجوه روّاده. في أحد المحال التجارية المعروفة وسط الشارع، تستوقفك صورة علّقت على الجدار، تظهر لقطات لبعض الزبائن المغلوب على أمرهم، اصطادتهم كاميرا المراقبة وهم يسرقون بعض البضائع مع كلمة wanted.
نسأل صاحب المتجر عن حقيقة المشهد والدعابة الساخرة الكامنة وراءه، فيجيبنا: «ضقنا ذرعاً بسرقة بضاعتنا، بعدما تحوّلت إلى حدث شبه يومي. علقنا بعض صور السارقين كنوع من التحذير المسبق إلى كل من تسول له نفسه السرقة مجدداً، وحتى يعرف أصحاب هذه الصور، أنّنا لسنا غافلين عن رزقنا». يذكرنا المشهد المتصدر مدخل المتجر، بأفلام الغرب الأميركي، عندما كانت تعلّق صور القتلة والمجرمين والمطلوبين للعدالة، على الأعمدة ومداخل الحانات مع كلمة Wanted ويتسابق صائدو الجوائز في مشاهد الفيلم للقبض عليهم! كان للحوار الساخر مع صاحب المتجر أن ينتهي سريعاً، لكنّ التدقيق في صور «الجناة»، أظهر الشاعر والكاتب الصحافي السوري زكريا إبراهيم، وهو يحاول إخفاء قطعة من البسكويت داخل معطفه الشتوي القديم.
لم يلاحظ صاحب المتجر المشغول بمحاسبة زبائنه، تحوّل الضحكة إلى شرود وتأمل: لماذا يا زكريا إبراهيم؟ ذلك الكاتب السوري الذي لمع نجمه في الثمانينيات، اختار احتراف الصعلكة، والغرق في حياة الخمر، بعدما هجر الكتابة وحياة الشعر والصحافة والأدب، وتحول إلى شخص منسي يعيش على هامش الحياة التي جارت عليه وسحقت أحلامه. يتنبه صاحب المتجر لشرودك وأنت تحدق في الصورة الصغيرة. يدفعه الفضول ليسألك بحماسة: «شو أستاذ كأنك بتعرف حدا من هالحرمية؟» تجيبه بالنفي. تحاول رسم ضحكة على وجهك وتمضي بعيداً باحثاً عن زكريا إبراهيم، الصعلوك الذي يقضي أيامه الآن متسكعاً في شوارع بيروت، باحثاً عن ثمن زجاجة خمر، وسرير ينام عليه بقية ليلته. قبل أن يتحول زكريا إبراهيم إلى «مطلوب» بسبب سرقة قطعة بسكويت صفراء اللون، كما تظهر في صورته، كان يعتبر واحداً من أبرز الوجوه الأدبية الشابة الواعدة في مطلع الثمانينيات. اندفاعه نحو التجربة لفت أنظار عرّاب المسرح السوري الراحل فواز الساجر، فعمل معه ممثلاً في عدد من عروضه الأولى. ربما هذا ما أكسبه ثقة بالنفس، ما زال يعيش في ردائها أمام أهم المسرحيين السوريين حتى الآن. مرةً، التقى زكريا إبراهيم النجم غسان مسعود، فخاطبه قائلاً :«تعال إليّ» فاقترب مسعود منه، وفتح معه حوار طويل عن الذكريات التي جمعتهما مع الراحل فواز الساجر. مقالات نقدية نشرها زكريا ابراهيم في جريدة «السفير»، فرضت نفسها حالة متفردة على الساحة الثقافية السورية في زمن كثر فيه الهجاء المجاني، وقلّ فيه النقد الأكاديمي الحقيقي. شكلت مقالاته هاجساً ومحفزاً للكثير من الصحافيين والنقاد في تجاوز أسلوب إبراهيم في ذلك الوقت. يحمل زكريا اليوم بعضاً من مقالاته القديمة في حقيبة لا تفارقه أبداً. لقد تحولت القصاصات الورقية إلى جزء من هويته التي يرفض أن يفقدها، أو أن تسرقها منه عثرات الأيام. صدمات نفسية ونكبات متلاحقة، حلّت عليه من دون استئذان، لعل أكثرها إيلاماً وقسوة، وفاة زوجته الثانية في حادث دراماتيكي، ربما لن تجد له مثيلاً في أعظم تراجيديات العالم. لم يقف إلى جانبه أحد من الأصدقاء.
وجد في الإدمان على الكحول مهرباً من الضيق الذي سيطر على قلبه وعقله. اليوم تجده مخموراً يهيم على وجهه في الحمرا. القدر لم يكن كريماً معه كعادته. حولته لحظة ضعف من متسكع يعيش على أنقاض أحلامه المحطمة إلى «مطلوب» بتهمة سرقة قطعة بسكويت صفراء اللون، يسخر من صورته و«جريمته» الصغيرة، الزبائن العابرون في شارع الحمرا!



نص كتبه زكريا إبراهيم في وداع النجم السوري ياسين بقوش