(1)من هذا الماثلُ خلفَ حجابِ الوقت
يسبحُ في بحرٍ لجّي
لا يغشاهُ الموجُ ولا الظلماتُ ولا يعلُوهُ سحاب
أخرجتَ يديك فأبصرتُ خطوطَ الدم تسيلُ على كوكبِكَ الدرّي
مشكاةٌ في مصباح
تُوقَدُ من زيتونٍ وضاء لا شرقيَّ ولا غربيّ
أتُراكَ وقد حلّقتَ إلى ما بعدَ الشفَقِ الوردي
تهدّئ طوفَ شراعِك
تستوقفُني وتشدُّ على كفّي
وتمدّ يداً تومئُ للوعدِ الآتي
وتنيرُ الدربَ بقنديلٍ من زيتٍ لم تمسسْهُ النار
وتحدّقُ فيّ...

(نهاد علم الدين)


كأنك تلتمسُ العذرَ على شوقٍ لم يُعرفْ حتى أغلقتَ البابَ وراءك
... فترفّقْ خفّفْ من خَطوِك
لعلّكَ تظهرُ في مرآتي
طيفاً كتوهّجِ شَفَقٍ في عاصفةٍ شمسيّة
كبَرقٍ يذهبُ بالأبصار
كودَقٍ يسّاقطُ من سبعِ سماوات
كطيرٍ لا تلقي بالاً للأسوار تحطّ بأرضٍ لا تُنقَص من طرفيها
تحتضنُ الوردةَ تَحمِي من عبثِ الظلِّ الألوان
تستافُ رذاذَ الضوءِ الآتي من أبعدِ نجمة تجعله قمراً
لا فرق...
إن كانَ عبورُك من شعلةِ نارٍ أو من قبضةِ طين
فلو أطبقتُ جفوني
إنْ شئتَ رأيتُك فوقَ قِبابِ الكونِ الأسمى حقلاً أبديا
أو شئتَ أراكَ سديماً يرسمُ قوسَ الفُلكِ على رملِ الصحراء
قوساً مشدوداً ما إن يُترك حتى يندفعَ الفجرُ الصادقُ فوقَ كرومِ الفلّاحين
يتوالى من أعلى الغرفات
فيسيلُ الكوثرُ من كفِّ محمّد...
وتنامُ الشمسُ بأحضانِ علي...
وينثالُ السنبلُ من رؤيا يوسف

(2)

ما زلتُ أراك طفلاً يرتقبُ الفجرَ وتخفقُ بين يديه النسمات ويجري خلفَ الغيمات
ويبحثُ عن أصلِ العطرِ واسمِ الوردة ومنبتِ زهرِ الليمون
ويلهو في أروقةِ الصيف...
ويكتشفُ الدهشةَ... حين يصيرُ المرجُ الأخضرُ ذهبيّاً
وكيفَ الثمرُ الحلوُ لا يأتي إلّا في ثوبٍ أصفر
وكيفَ يدورُ الوادي مثلَ بساطِ الريح يُنادي أسرابَ البجع أن ألقي رحلَكِ عندي
فلديَّ خريرُ الماءِ وبَردُ الفيءِ وحنانُ الأشجار وحكاياتُ الغادين
ما زلتَ فتى يخطبُ ودَّ قفيرِ النحلِ ويلتحفُ الأغصانَ ويبني العشَّ لعصفورٍ أيتمَهُ الصيّاد
يتقصّى أثرَ الريحانِ إلى أرض البرتقال الحزين
وإذا أخذتْهُ مدينة، يغرسُ في كتلِ الإسمنت روحاً غرّاء
ويلوّنُ جدرانَ الأبنيةِ الغبراء بألوانِ الطيفِ السبعة
وفصول السنةِ الأربعة
لكنّ الوجهَ البدري أحبَّ ترابَ الوادي القدسيّ فهوى يلثُمُهُ في نيسان

(3)

وشبكتُ ذراعيَ بذراعك... نسترقُ السمعَ إلى صوتِ التاريخ
عن شمسٍ تغربُ في عينٍ حمئة
وقومٍ لا يُفقهُ قولٌ منهمْ
عن سدٍّ يفصلُ بينَ السِّلّةِ والذلّة
لا ينقبُهُ غيرُ شهابٍ ثاقب... في قبضةِ رجلٍ آتٍ من أقصى الشرق
يطرُقُ بابَ القرية فينهزمُ الرهطُ وتقتحمُ الثلُّة
عن وقعِ حوافرِ خيلٍ تُدمي صدرَ السِبط
فيطفرُ من عينيك الدمع...
طفلاً لم يعرفْ أكثرَ ما قيل
لكنْ أدركتَ بحسٍ فطريٍ معنى سوطِ الجلّادِ على ظهرِ التاريخ
وصمّمتَ بحسٍّ فطريٍّ أيضاً أنّكَ لن توليَ ظهرَكَ للجلاد، وستغرس عينك في عينه حتى تطفئها.
ومشيتَ... تصطادُ الإعصارَ وتركبُ صدرَ البركان وتهدي الشعلة أولَ عابر
فيُقال:
حاذرْ لا توقظْ تنينَ الغربة
ولا تعبثْ بالهولِ الآتي
فالماردُ إذ يُوقَظ لنْ يغفوَ بعدْ
إهدأ إذْ يرتفع المدّ... وانتظرِ الجزر
وتدثّرْ بغطاءِ الخوف في ليلٍ صرصر
واصمُتْ كيْ تتركَ سمعَكَ لعواءِ الغابة
والتمسِ العَرَضَ الأقربَ والسفرَ القاصد
فحتّى لو نفرَ الناسُ ومشتِ العير
ودار الحَول وانسلختْ أشهُرُهُ الحُرُم
ومضى الجمعُ إلى أبعدِ شُقّة
فاستأذنْ لا تركبْ معهم...
واحلف إنّك منهم
وسيعصمُكَ الجبلُ مِن السيل
وسينفلقُ البحر
ويبتلعُ اليمُّ صفوفَ الجند

(4)

وتقولُ أبي:
لن أبرحَ هذي الأرضَ حتى تأذنَ لي
حتى تنتشلَ السيّارةُ غلامَ الجبّ
ويسجدَ أخوتُهُ العشرون
ويُعادَ صُواعُ الملك...
وتَحكي منسأةُ سليمانَ عن موتِ التيجان
...لن أبرحَ هذي الأرضَ
حتى لو طاشَتْ أقدامُ رفاقي بحثاً عَن كنزٍ مخبوء
ونازَعَني شغفُ الترحالِ على دربِ الخيميائيِّ
فكنزي بين يدي في أرضٍ مِن منزلةٍ أخرى
في الأفقِ الأعلى يغشى سِدرتَها ما يَغشى
وأقول...
لعلّي ألقاكَ هناك تبني واحتَك الأبديّة
ترسمُ فوقَ حديقتِها أحلاماً بقيتْ في جعبتك الأرضيّة
فأهمسُ في أذنك إنّي أعرفك الآن وأعرف عنوانَك وأعرفُ أنّك لم تُطلِق كلَّ سهامِك
وأنّك في ميثاقِ الغيب سطراً فضيّاً في لوحِ محفوظ

(5)

وحسبتُ بأنّي عندَ الشاطئ
قدمايَ تغوصانِ بماءِ البحر
والصخرُ يصدُّ الموج
والرملُ يداعبُهُ ويهدّئُ من روعِه
وأرى أنّ بقايا خطواتي لم تُطمَس بعد
وأنّ النارَ الموقدةَ هناكَ تُذيبُ الريحَ وتهمسُ بالدفء
وصحوتُ لألقَى طوفاناً من جمرٍ ودخان
لهباً فوق الماءِ وتحتَ الماءِ وبينَ الأمواج
وكنتَ هناك
تتوضأُ في ميقاتِ الفتحِ تُبايعُ تحتَ الشجرة وتلتمسُ الرضوان
كزرعٍ أخرجَ شطأَه يغيظُ الكفّار
ويُزري بوجوهِ الأعراب إذْ تطوي عن مكَّة كشحاً...

(6)

وأظنّ بأنّي أنظرُ في عينيك
فأرى نفسي فيها روحاً مسلوبة تتلاشى في ثقب أسود
وحيناً ألقى كوكبيَ المفقود
كوناً أخضرَ ينثرُ فوقَ رمادِ الحزن شعاعَ النورِ الأول
وأظنّ بأنّك تنظرُ في عينيّ فتلقَى ورداً مرميّاً فوقَ رصيفٍ مَتروك
وكفّاً تحثّ قطارَ العمرَ أن يمضيَ حتى آخر رِحلة
وترى جمراً لا تدري أشعلةُ شوقٍ أم ثأرٌ مجبولٌ بالقهر
وتردّدُ مبتسماً أنَّ القهرَ وراءَك والثأرَ وراءَك والغضبَ وراءَك
أدركتَ مرادَكَ مذْ ضيعتُ مرادي
فأنا واللهِ أُعلنُ أنّكَ خلفَ ستارِ الغيب في الثقلين
لم يقهرْكَ الإعصارُ ولم يهدمْ جسرَ عُبُورِك
تفتحُ باباً للأحبابِ لِمَن سَبَقوك
فلا تُحكِمْ إغلاقَ البابِ وراءَك
لعلّي أقوى أنْ أفتحَهُ في يوم ٍما
واتركْ لي نافذةً كي أنظرَ مِنها
أتلقّى ضوءاً لا يطفئُهُ ليل
وصمتاً لا يُلقي بالاً لضجيجِ اللاهين

(7)

أجمع أوراقيَ وأبعثرُها
عبثاً أنسجُ بالكلماتِ عباءَةَ فرحٍ للباكين
عصبةَ عزمٍ للأحرار
كفّاً تمسحُ عن ذاكَ الجسدِ المسلوب غباراً من كثبانِ الطّف
عبثاً أُسدلُ بالكلماتِ ستاراً فوقَ جبالِ الموت
عبثاً يفرحُ من نَكثُوا العهدَ بمقعدِهِم خلافَ المسرى
أو يحجبُ ضوضاءُ الردّةِ حممَ الجبهاتِ وأزيزَ الطلقات
أمّا أنت، فتديرُ عيونَكَ تلتقطُ شعاعاً يأتي من بعدٍ خامس
لا شيءَ هناك سوى شمسٍ تدفئُ في القَرّ وماءٍ يروي في الحرّ
تحلّقُ ما فوق الكلماتِ إلى أفقٍ لم يولدْ بعد
إلى أملٍ معقودٍ في ساريةٍ لا يدركُهَا المعنى
أطلِقُ جُرحَكَ للرّيحِ ولا تعبأْ بالروعِ الآتي
فأخذتَ بصدرِكَ كلَّ سهامِ القوم
وقلتَ لأهلِ العرفان صلّوا مثلَ صلاةِ حسينٍ عندَ الظهر
وصلاةِ عليٍّ عندَ الفجر
وصلاةِ رسولِ الله في الحجِّ الأكبر
لا وقتَ سوى للرايةِ تتناقلُها الأيدي
لا وقتَ سوى للسيفِ يلاقي رأسَ الثعبان
ما من طوفانٍ يغسلُ هذا الدم

(8)

وتقول..
ياربِّ قويتُ على خدمتِكَ جراحي
وشددتُ إلى النصرِ جَنَاحي
وخشيتُ بجدٍّ من نفسي لا مِنك
من أنْ يُغضبُك قعودي فنَهضت
وسرحتُ إليكَ أبادرُ من سَبَقُوا
أشتاقُ إلى قربِك وأُسرعُ كي أدنوَ مِنك
وأُخبِتُ حتى يُصبحَ خوفي منكَ خُشوعاً
وأُوقِنُ حتى يخلوَ قلبي إلّا مِن نَجوَاك
فأنا لا أخشى إلّا هجرك ولا أُصلِح سرّي إلا كي تنظرَ في قلبي
وأُضرم جسدي حتى تعرفَ أنّي لم أغفلْ عنك ولم أَصرِفْ عن ظلِّ جلالِكَ وجها
وإنّي أزدادُ حياءً منك إذ تقبلني قرباناً
يارب
غرّدتُ بحبّكَ فاجعلني حُبّاً واملأ بدمي أوردةَ العالم
ربِّ نظرتُ إليكَ فحدّثني كي أُبصرَ نورَك
كي أعبرَ فوقَ ضفاف النهرينِ العطشى
كي أجتازَ دروبَ العودةِ من صفّينَ إلى سامراء... ومن حُنين إلى بدرِ الكبرى
كي أرصفَ دربَ القدس بركامٍ مأخوذٍ من غزّة أو عيتا
قد قلتَ لإبراهيمَ وإدريسَ وموسى من قبلُ... فقلْ لي
فأنا أصغرُ من أنْ أطلبَ شيئاً مِنك
لكنّي أكبرُ من أنْ تعصفَ بي سحابةُ شكٍّ تنسيني ذكرَك
وأنا لا أَلقِى نفسي إلّا في نفحاتِ القرب تُنزلُهَا من أعلى الدرجَات

(9)

وأقول
فلنهتِفْ للطوفان ما دامَ الجدبُ يُذيبُ الخصب
ولنهتِفْ للطوفان ما هبّتْ عاصفةٌ أو فارَ التنور
واهتف للطوفان يقتلعُ مراسي الخوفِ من ميناءِ الغفلة
واهتفْ للطوفان يديرُ رؤوس الغافين على كتفِ المأساة
طوفانٌ لا فلك فيه ولا جودي
لا تُقلِعُ فيه سماءُ ولا تَبتلِعُ الأرضُ الماء
واهتفْ للأنواء كي أحجز أمتعتي في أولِ مركب
يقتحمُ الموجَ ويغزو بحرَ الظلمات
واهتفْ للشطآن تعانقُ أولَ فاتح وتطردُ آخرَ غازٍ
وتمسّدُ وجهَ فتى لم يلفظْهُ البحرُ غريقاً
بل يمشي فوقَ رمالِ النصر يلوّح للآتين.

* رئيس «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»

1: إلى محمد حسن فضل الله شهيداً على طريق القدس وكلّ شهداء المقاومة