«أنا أحبّ الشعر كثيراً مع أنني لا أجيد كتابته، لكنّ «زيارة» علّمتني أنّ في داخلي شاعرة نائمة» بهذه الكلمات اختصرت المخرجة اللبنانيّة موريال أبو الروس سلسلتها الوثائقيّة «زيارة» التي أطلقتها في عام 2014، لتصل اليوم إلى سبع أجزاء كأنّنا بها قصائد شعرية صافية. في الأسبوع الماضي، أطلقت أبو الروس الجزء الثامن من السلسلة في ساحة الشهداء، لتفتتح مهرجان «ربيع بيروت» المستمرّ حتى 20 حزيران (يونيو). يمكن وصف الجزء الثامن بأنّه قصيدة طويلة في حبّ بيروت ورثائها أيضاً، إذ بلغت أبو الروس ذروة النضج، مع طبقات من الصور الشفّافة التي تتوالى بانسيابيّة لترافقها مؤثرات صوتيّة وحكايات أبطال الحلقات. لوحات بصريّة، تشكّلت بحرفيّة، مع الحفاظ على عفويّة اللحظة التي التقطت بها. تسعى السلسلة عموماً إلى رسم صورة شاعريّة عن الأشخاص الذين تتناولهم، وهم يروون قصصهم، ويعبّرون عن عواطفهم، ويترافق كلّ شريط مع نبذة عنهم.
جورجيت جبارة ورفعت طربيه أثناء عرض السلسلة في «ساحة الشهداء» الأسبوع الماضي


وهذا العام، شاء صنّاعها توجيه تحيّة إلى مدينة بيروت عبر 12 فناناً أسهموا في المشهد الثقافي والفني والفكري الذي صنع مجد المدينة، فاختاروا عدداً من كبار الأسماء في عالم الرقص، والمسرح، والتلفزيون والموسيقى، هم: جورجيت جبارة، روجيه عسّاف، رفعت طربيه، رندة كعدي، فائق حميصي، زياد الأحمديّة، ميراي معلوف، تقلا شمعون، هاروت فازليان، أميمة الخليل، نقولا دانيال ورندا الأسمر. إلى جانب مساهمتهم في الحراك الفنّي والثقافي، هناك محاور كثيرة تربط أبطال هذا الجزء مثل معايشة بعضهم حقبة ما قبل الحرب الأهلية، ثم دخول البلاد أتون الصراع والهجرة والصمود والفنّ الذي لم يهزمه شيء. حكاية صمود الفنانين في ظلّ الحرب، روتها المصمّمة الكوريغرافيّة والراقصة المعروفة جورجيت جبارة. تحدّثت عن قصة صمودها وبنائها المدرسة اللبنانية للباليه في خضم الحرب، وأعمالها التي حصدت جوائز تحت القنابل المتفجّرة. تقول: «ذهبنا إلى العراق وقرطاج لنحصد الجوائز تحت القنابل». كما يستعرض المخرج والممثل نقولا دانيال قصّة صموده رغم الوجع «لم أترك بيروت ولا حتّى معهد الفنون، لا أتخلّى عن حقّي في الحياة وهذا البلد لنا نحن». أمّا المغنيّة الصامدة أميمة الخليل، فتستذكر المرّة الأولى التي رأت فيها بيروت وهي طفلة، حين رافقت والدها إلى المطار لإيصال أحد أقاربهم، فـ«انبهرت حين رأيت بيروت، كانت مليئة بالأضواء... الآن أصبحت معتمة». وتستعرض مسيرتها الغنائيّة التي بدأت باكراً وواكبت الحرب «التي أخذت منّا الكثير، كان هدفي أن أغنّي لأولئك الذين أُقحموا في الحرب ولا دخل لهم». ممثلتان مناضلتان رفضتا الرحيل عن بيروت أيضاً، تتحدثان بكلّ صراحة أمام الكاميرا عن آثار الحرب التي حفرت في روحيهما وذاكرتيهما. تعدّ الممثلة رندة كعدي أنّ الحرب أفسدت طفولتها ووأدت أحلامها. تفصح عن غضبها تجاه لبنان وتعترف بأنّها لم تقدر على مسامحته بعد. تتحدّث عن المدينة التي أوجعتها، قائلةً «بيروت تمزقت وقلبي يتمزق، بيروت تتمزق وما زالت تفتح يداها بكلّ إجرام لتفرقنا». وتشارك الممثلة تقلا شمعون الألم الذي سبّبته لها الحرب، فتروي قصّة الطفلة التي فهمت نظرات الرعب، لكنّها لم تفهم أسباب وأحداث الحرب، وتتحدّث عن سنوات دراساتها الجامعيّة تحت القنص. تستعرض علاقتها بهذه الأرض وتمسّكها ببيروت، «لكنّني أحياناً أتمنّى لو أني ولدت أيّام الزمن الجميل الذي يتحدثون عنه، ثمّ أعود لأقول أنّني أحبّ هذا الوطن، أحبّه في مرضه كما في صحته. لا أستطيع أن أعيش خارج لبنان، لقد تأسّست لكي أعمل لبلدي».
حنين صنّاع الفنّ إلى بيروت ما قبل الحرب، تناولته السلسلة في حلقات الجزء الجديد، إذ استرجع المعلّم روجيه عسّاف بيروت الحرّة التي كانت منصّة لكلّ الأفكار والديانات «لم نكن نعرف شيئاً عن الطوائف، كل شيء كان مختلفاً. بيروت كانت مليئة بالحريّة والعطاء والمشاركة». ويصف المسرحي المعروف ما يُقال عن بيروت بأنّها كطائر الفينيق تنبعث دوماً من تحت رمادها بأنّه «تفنيص»، ويفصح بأنّ السنوات الأخيرة بعد ثورة 2019 كانت أصعب مرحلة في حياته. أمّا المسرحي رفعت طربيه، فيشدّد على أنّ بيروت كانت بلد الحريّات وقد توّجها المسرحيون بهالة المسرح. يستعيد أيّام شوشو حين كان المسرح في أوجّه، قبل أن يردف «خربوها». وتشبّه الممثلة ميراي معلوف منطقة الحمرا قديماً ببرودواي «حين كنّا سعيدين ومتعلقين بالحياة، أمّا اليوم فالمناخ العام، أصبح كئيباً». أمّا الممثلة ومديرة مهرجان «ربيع بيروت»، رندا أسمر، فتحكي عن بيروت القديمة التي تصفها بالحرّة والجميلة رغم الحرب، فقد «كانت ذات إمكانات كبيرة للفرح والأناقة والثقافة والفن، وكانت مدينة حرّة»، ثمّ تتأسّف على حالها اليوم، إذ «مات الحق، وهذا ما يرعبني بخصوص جيل الشباب الحالي، كيف لهم أن يؤمنوا بمدينتهم؟»
فنانان هاجرا عن بيروت في الحرب قبل أن يعيدهما الحنين أوّلهما فائق حميصي، رائد التمثيل الإيمائي في لبنان. يستذكر لجوءه إلى فرنسا في ظلّ الحرب التي اندلعت بعد سنتين من تخرّجه، قبل أن يقرر العودة إلى تأدية دوره في المدينة. يصف بيروت بأنّها أمّ التجارب الجديدة، فهي التي «أعطتني فرصة اعتلاء المسرح وأكون مختلفاً». وإذا كان حميصي يمّم شطر باريس، فالمايسترو هاروت فازليان سافر إلى مونتريال، ليعود بعد عشرين سنة قائداً للأوركسترا الفلهارمونيّة اللبنانيّة لأنّه «إذا لم نملك الحب والأمل، فلا نملك شيئاً».
شارك الفنانون الأوجاع التي سبّبتها لهم المدينة كأنّهم يريدون التصالح معها


أمنية الموسيقي زياد الأحمديّة، لا تشبه أي أمنية أخرى، إذ تمنّى لو أنّه عايش الحرب! الموسيقي الذي ولد وترعرع في الكويت، قدم إلى بيروت في عمر الشباب عام 1989 واستقرّ فيها، «لكنّني تمنيت لو أنّني كنت أقطن بيروت وقت الحرب». يرى الأحمديّة في الوقت الحالي أنّ بيروت مدينة سريعة التطوّر والأحداث، ولذلك يخاف أن يغيب عنها.
بالحديث مع بعض أبطال الموسم الثامن عن تجربة العمل مع فريق «زيارة»، يقول رفعت طربيه: «ما يعملون عليه مهم جدّاً، تهمّني أرشفة المسرح بهذا الأسلوب الفنّي». وتختصر رندة كعدي التجربة بقولها «السلسلة الوثائقيّة أبعد من الزيارة، هي دخول على القلب لكي نتكلّم عن مدينة بيروت، الحلم الذي سرق منّي أحلامي».
هكذا كرّمت المخرجة موريال أبو الروس والمنتجة دنيز جبّور مدينة بيروت عبر مجموعة فنانين يعدّون من رموز الحركة المسرحيّة والموسيقيّة والفنيّة في المدينة. نصوص لم يخطط لها، بل صدرت بشكل عفوي وطبيعي من الأبطال، لم يفتعل أحد منهم حباً مزيّفاً للمدينة أو صورة جميلة اصطناعيّة، شاركوا الأوجاع التي سبّبتها لهم كأنّهم يريدون التصالح معها، واسترجعوا ما قدمت لهم من جمال وسعادة وثقافة وفن. وفي كلا الحالتين، أحبّها كل واحد منهم على طريقته. حافظت المخرجة على طبيعة الأماكن التي صوّرت فيها، حتّى ضوء الشمس الطبيعي وهو يتسلّل عبر نوافذ بيروت.

* «زيارة» بدءاً من 15 حزيران (يونيو) على صفحة «زيارة» على يوتيوب