كيف تتخيّل مشهد «الناس العاديين» تحت ظروف الاحتلال الإسرائيلي؟ هؤلاء الذين يحملون بيوتهم على ظهورهم وينتظرون تصريحاً من قوات الاحتلال ليزوروا قراهم، أو الخبّازين والمُزارعين وأصحاب المحال الصغيرة التي تعرف زبائنها بأسمائهم الكاملة وتاريخ عائلاتهم. يعرفونهم بأسماء أجدادهم الأوائل ومَن الصالح فيهم ومَن الطالح، من يملك روح الدعابة ومن صاحب الظل الثقيل. منذ عقود، ترى وتسمع آلاف التحليلات ووجهات النظر عن الصراع الذي دار منذ عقود ولم ينته حتى الساعة ولن ينتهي إلا برحيل المُحتلّ عن بلادنا. كثيرون تحدّثوا وقالوا وكتبوا وصرّحوا في هذا الصدد. كثيرون هم من كانت لهم مواقف ووجهات نظر. كثيرون هم من انتموا إلى طرف من الطرفين، راح بعضهم وظلّ البعض الآخر. لكن في خضمّ هذا الكمّ الهائل من الكلمات والمواقف، قلّة عرفت معنى مقاومة الناس العاديين ورأت عظمة هذا الأمر. اليوم، المصادف 25 أيار عام 2024، يحتفل لبنان بعيد المقاومة والتحرير، الذي مرّ عليه 24 عاماً. جنوب لبنان الذي تحرّر من المحتلّين والغزاة، الذين أتوا من بولندا وألمانيا ليعيشوا «حلم الوطن القومي الآمن لليهود»، رحلوا عن جنوب لبنان يجرّون خلفهم ذيول الخيبة تحت ضربات الحديد والنار، بفضل صمود الناس العاديين.
كثيرون تكلّموا عن أبطال هذه المعارك التي دحرت الاحتلال ووضعت خنجراً في قلب من يفكّر بالعودة مرّة أخرى إلى أرض جنوب لبنان ويضّمها إلى «الوطن القومي لليهود». أبطال نعرفهم بعد استشهادهم، صنعوا مجد هذه الأمة وخُلّدت أسماؤهم في كتب التاريخ كرجالات قهروا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر. أبطال حملوا على عاتقهم تحرير ضمير الإنسانية من كيان سرطاني مريض يضرب الحياة في مقتل حيث يوجد. لكنّنا هنا لا لنحكي عنهم، تعرفونهم ونعرفهم، ماذا عن صمود الناس العاديين؟ ماذا عن لذة أفراحهم التي لا تضاهيها لذة أخرى في العالم؟
ليس يوماً عادياً لناس عاديين، فلم يكن مشهد الانسحاب المُذلّ لقوات الاحتلال الإسرائيلي عن أرض جنوب لبنان يوماً كباقي الأيام. لم يكن عادياً بالنسبة إلى الفلاح والعامل وصاحب الدكان. لم يكن يوماً عادياً لبنت الأرض وقِطاف الزيتون. لم يكن عادياً للتين والبصل الأخضر والعجين المجبول برائحة تراب حمل أطفالاً وشباباً وشيوخاً يوم لعبوا عليه والرياح الآتية من فلسطين تهبّ كنسيمٍ لا يعود للتعب فيه من مكان. نسيم يأتي من ذاك المكان ويكون كمسحة الدمع عن خدّ يتيم أو كشعور الحجر الذي يستريح عليه فلّاح من تعبه. يوم مُزّقت التصاريح وأزيلت الحواجز عن الطرقات وخرجت يد الظلم من أوكارها معلنة استسلامها لهؤلاء «العادييين» الذين قهروا الظلم وانتزعوا حرّيتهم بدمائهم.
تلك المشاهد التي تظهر الإذلال غير المسبوق للجيش الذي أراد أن يكون وجوده قدراً محتوماً، لم تأت وليدة الصدفة، بل هي نتاج نحو 18 عاماً من العمل المقاوم، بكلّ أطياف شعب الجنوب، بشيبه وشبابه، برجاله ونسائه، بعسكره ومواطنيه. إنه الصمود الذي تكسّرت بفعله أبواب معتقل الخيام وخرجت من أبواب «المتر بمتر» أيادِ كانت تسمع صرير الدبابات وهي تنسحب ذليلة خاضعة لرغبة أصحاب الأرض بزوال المحتلين.
مَن باستطاعته نزع الشريط المصوّر لتلك الجنوبية الصامدة، التي صرخت بلهجتها الجنوبية العميقة، وهي تنثر الورود على السيارات العائدة من القرى الحدودية وتحمل معها عبق الحرية، صرخة تخرج من كيانها كلّه وتعبق من صوتها رائحة تراب الأرض وأشجار الزيتون: «الحمد لله لتحررني». في هذا الصوت تاريخ كامل من الانعتاق من نير ظلمات الاحتلال، تعرف هذه الجنوبية الصامدة ومعها مجمل الناس العاديين، معنى النسيم العليل الذي يوصِل أرض جنوب لبنان بأرض فلسطين. تعرف ما يعنيه أن تخرج في رحلة إلى بحيرة طبريا وأن تزور القدس، عاصمتها الروحية. تعرف بقلبها قبل أيّ شيء آخر، معنى اندحار المحتلين والخونة. تعرف لأنّها ذاقت طعم الظلم ومرارة الحرمان وتعب من أكل المشي هرباً من الموت حواف قدميه. تعرف تلك العادية، معنى الأرض ومفتاح الدار وخبز التنور تحت ظلال شجرة. تعرف بقلبها العادي معنى الحرية، التي لا تحتاج معجماً ولا مباحث ولا كتباً لتفسيرها، بل تلك التي تُعرف بالغريزة أو الفطرة... تلك التي تأتي مع صياح الديك صباحاً ومع النسيم الذي يأتي من البعيد حاملاً معه زوال ألم دام أعواماً. تلك الحرية التي تعني فنجان القهوة في العصر مع العائلة تحت شجر التين.
مشكلة من يريد التحدّث عن جنوب لبنان أنه لا يعرف هذا الارتباط الوثيق بالأرض، يغفل عن أن شعب الجنوب خُلق من هذا التراب وهذا التحرير الذي تعبّد طريقه بالدم... مِن جرح الإصبع الصغير من كوز صبّار نزلت فيه قطرة ماء على الأرض، وصولاً إلى الذي يحمل سلاحاً يُرهب به قلوب المعتدين. إنها حكاية غير عادية لناس عاديين.