يستطيع الفن أن يكون أيضاً تعبيراً عن الجسد العليل وأوجاعه، بوسائط وأدوات وأشكال مختلفة، في مساحة عرض واحدة هي «غاليري جانين ربيز» في بيروت. تختزل الفنانة المفاهيمية منار علي حسن (بيروت ــ 1980) تجربتها وتجارب ستّ صديقات مع مرض التهاب العضلات الليفي تحت عنوان «حكايات أجساد مؤلمة». تشرح الفنانة متعدّدة التخصّصات، التي حازت شهادة الماجستير في الفنون البصرية من «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا) في عام 2019، قائلة: «تحت وطأة الشدّة والمحن، غالباً ما نجد أنفسنا مرغمين على إعادة النظر في حياتنا وتعريفها من جديد، في محاولة للحفاظ على هوية ذاتية صادقة. والمعرض مشروع فني قائم على البحث في سرديات شخصية واستكشاف الطبقات الحميمة والشخصية لمعنى الألم الذي ينخر الجسد. وفي هذه الأعمال الفنية، تتجلّى التجارب الحية لسبع نساء لبنانيات يصارعن حالة مرضيّة مزمنة ومؤلمة. يسعى التعمّق الفني في روايات الأمراض المزمنة وإيماءات الجسد، إلى إلقاء الضوء على طبيعة التجارب التي تعطّل مسار الحياة ومعانيها. يطرح الرسم أسئلة وجودية ويقيم رابطاً قائماً بين الهوية والعلاقات الشخصية والاجتماعية. منحتني شريكاتي في الألم قوة تسلّحت بها كي أحتضن قصصهن وأستوعبها بإخلاص. أعمالي هي تكريم لصلابة هؤلاء اللواتي يعانين من الألم المزمن وشهادة على شجاعتهن وصمودهنّ أمام محن الحياة».‏في المعرض المستمرّ حتى نهاية الشهر الحالي، نقف أمام أعمال سيرية معلّقة وفوتوغرافيات ونصب تجهيزيّ من علب الأدوية ولوحات متعددة المواد، فضلاً عن شريطي فيديو. يغوص الأول في معنى الألم، فيما الثاني كناية عن تأمّل قريب وحميم في تجربة والدة منار نفسها مع المرض ومقاومتها له وعدم تركه يؤثر على تصرفاتها أمام الآخرين.
تحت عنوان «طباعة الاشتداد ومحاصرة الأجساد المتشنّجة»، نجد ثلاث مجموعات نُفذت بين عامَي 2019 و 2023، بتقنيات مختلفة: أكريليك على أورغانزا، وحبر وخياطة يدوية على مواد متنوعة، أكريليك على أكفان... أعمال صادمة وبليغة، ظلّية ومعلّقة. تتدلّى القطع مثل الأكفان، فوقها أشكال باهتة ومتحلّلة بالحبر، على ورق رقيق أو قماش، لتمثل تجارب النساء السبع ومواضع الألم في أجسادهن التي تبدو مثل خيالات منتصبة أو منحنية، إنّما غير مكتملة الأعضاء، معزولة ومتألمة. لم يبق الجسد مثلما كان، فهو معرّض للزوال، للموت .
«آثار حارقة» عنوان مجموعة فوتوغرافية (طباعة باردة على ورق) لأجساد ممدّدة فوق السرير في وضعيّات تشي بألم لا يحتمل، ويزيدنا الأبيض والأسود إحساساً بوجع تلك الأجساد وعزلتها وحالة التشوّش التي تعيشها والمعبّر عنها باللقطة المغبّشة غير البؤريّة. اللاوضوح في الصورة ضروريّ ليعكس آلام الجسد والنفس معاً. فوتوغرافيات فنّية، مفاهيميّة، لا تنشد الواقعية بل تدنو من تجريد الشكل (الجسد) والملامح.
اللاوضوح في الصورة ضروريّ ليعكس آلام الجسد والنفس معاً


أمّا النصب التجهيزيّ المرتفع (متران و 15 سم) الذي يحمل عنوان «الساحر المقدّس»، فتغمز منار علي حسن عبره إلى الرأسمالية والاستهلاك، إذ يشي العدد الهائل لعلب الدواء وأصنافه الكثيرة باستغلال شركات صناعة الأدوية وترويجها الكثيف والمبالغ فيه لأدوية العلاج وتسكين الألم بغضّ النظر عن آثارها السلبية على صحة المريض. وجمعت كمية علب الأدوية على مدى ثلاث سنوات.
‏حكايات شخصية، حميمة، لمعنى الألم في الجسد الممزّق، غير المكتمل، على الورق والقماش، بألوان مونوكرومية حزينة، معتمة، يختلط فيها الواقعي بالمجرّد والرمزيّ. في نوبات الألم، تحاول النفس الهرب من الجسد. تجسيد الألم في الفن ليس أمراً سهلاً، بل يصعب التعبير عنه من الداخل واستحضار شكله المراوغ. لذا تبدو خلفية التجريد تجاوزاً لحدود الجسد الذي لم يحتفظ بكماله ولا بضرورة احتوائه للنفس المتألمة.

* «حكايات أجساد مؤلمة»: حتى نهاية أيار (مايو) ــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/868290