‏ينقل نديم كرم (1957) متابعي نشاطه التشكيليّ من منحوتاته المعدنية الضخمة التي كان فضاء المدينة العام مساحة عرض لها في ساحات وسط المدينة أو فوق جسورها، إلى فسحة العرض الداخلية في «مصانع أبرويان» (برج حمود ـــ ضاحية بيروت الشرقية) حتى الثاني من أيار (مايو) المقبل. يعلّق لوحاته وجدارياته تحت عنوان «فصول من يوميات الأزمنة الراهنة» (تولّت تقييمه الأكاديمية والناقدة نايلة تمراز) يضيء على «ثلاثين عاماً من الممارسة الشغوفة في مسيرة خارجة عن المألوف: حرب 2006، نزوح شعوب الشرق الاوسط، سياق الحجر من جرّاء الجائحة والانفجار الكارثي في مرفأ بيروت... كلها لها مكانها في العمل المتعدّد الأشكال المقدّم في خمسة أقسام في المعرض».منذ بداية مشروعه، ابتكر ‏النحات والرسام والمعماري مفاهيمه الخاصة لوظائف الفن (مع الالتفات دوماً إلى تخصّصه في الهندسة المعمارية) مثل «التعددية الدقيقة» و«هندسة الأداء» و«هندسة رواية الحكايات»، فأعماله تركّز دوماً على إعادة النظر في القضايا ذات الاهتمام العالمي، كالحاجة إلى الحلم وخلق الحكايات، ‏والأبديّ والزائل، والتعدّد والاختلاف داخل المجتمع كمصدر غنى لا كسبب للصراع. مبدؤه الثابت هو «التمرّد الإيجابيّ» والتأكيد على قوة الإبداع في مواجهة الرعب وانعدام الروح الذي تختبره حياتنا ومدننا. وسواء في منحوتاته المعدنية كبيرة الحجم التي باتت تدلّ توّاً على هوية صاحبها، أو في لوحاته الكبيرة الحجم أيضاً، ثمّة ملمح أسطوريّ جليّ، وتأثّر ‏بالفن اليابانيّ. على إثر تخرّجه من الجامعة الأميركية في بيروت، تابع كرم دراسة الهندسة المعمارية في اليابان حيث بقي عشر سنوات، وابتكر أشهر أعماله «الموكب القديم» خلال إقامته في طوكيو، مسلهماً حكايات «ألف ليلة وليلة» وشهرزاد في 1001 علامة مجسّمة نحتاً ضمن ما سمّي «ألعاب حضرية».

«مذبحة» (تريبتيك ـــ وسائط مختلطة على كانفاس ـــ 200 × 3602 سنتم ـــ 2009)

ينظر كرم إلى المدينة ككائن حيّ ذي نظم وهياكل ومساحات تحتاج إلى العمل. يتفاعل مع روح المدينة وطاقتها الكامنة، يحاورها، يستخرج منها شعراً وأحلاماً وأشكالاً. توفّر له المساحة العامة وسيلة لمخاطبة المدينة، فيتواصل معها الناظرون في المجال العام. ترسم المدينة مستقبلها، ونحتاج نحن إلى الشعور بالأماكن العامة عبر حواسنا الخمس. الفضاء العام هو فكّ لعزلتنا، جوهرنا، يربط في ما بيننا، يقول لنا من نحن. كلّما تمكّنا من إنشاء مساحة حرة ضمن مجالنا العام نستطيع مواجهة السيطرة السياسية على تلك المساحة. يبرز إلى السطح ما سكتت عنه المدينة مدةً طويلةً. يدفعنا العمل الفني إلى إعادة النظر في المدينة.
‏تلك نظرة كرم للفن في الفضاء العام، لكن ماذا لو دخل هذا الفن إلى الحيّز المقفل وعلّق على جدرانه وانتظر زوّاره ليأتوا إليه ولم يذهب هو إليهم؟ هنا تقسّم تيمات لوحاته إلى خمسة أقسام ذات عناوين تغطّي حوادث مفصلية في حياة الوطن والمدينة، وخصوصاً بين 2006 عام الانتصار على العدو الإسرائيلي، و 2020 عام انفجار مرفأ بيروت المأساويّ الرهيب. فللتاريخ دور أساسيّ في لوحات المعرض التي أراد الفنان إفراغ حمولة ذاكرته المتألمة فيها «تعبيراً عن حالات اليأس الممزوجة بالأمل» بحسب تعبيره، مردفاً «دفعني عشقي لبيروت إلى إقامة معرض يفرّغ فيه الزائر مكنوناته، إذ يمكن ربط اللوحات بالماضي والحاضر، وبينها ما يستدعي نيران غزة وجنوب لبنان، رغم أنها لوحات نفذت بين عامَي 2006 و 2009، وبعد قرابة عشرين عاماً لا نزال نعيش المعاناة نفسها».
لوحة ثلاثيّة (تريبتيك) بعنوان «مذبحة» تحيلنا إلى ما يحصل اليوم في غزة رغم تنفيذها قبل سنوات


عند مدخل مكان العرض، تستقبلنا منحوتة ضخمة تشي بالصرخة المكتومة والدمعة الكبيرة اللتين تجسّدان معاناة الإنسان اللبناني المتفاقمة والمتراكمة في الزمن. والدمعة العملاقة نفسها نراها في أكثر من لوحة في المعرض الذي يغلب عليه الطابع السوريالي. تقودنا أقسامه وعناوينه إلى ذكريات قريبة مؤلمة، ونقف مليّاً أمام لوحة «ذارف الدمع» التي تستدعي لوحة «لومولارم» أو «الرجل الباكي» (1923) للفنان بول كْلي حيث دمعتان بحجم ذارفهما. عدم التناسق في منحاه السوريالي محمّل بالمعاناة المفهومة والواقعية. الأسلوب سورياليّ لكنّ المعنى واقعيّ. يلجأ الفنان إلى الألوان المائية وقلم الرصاص والفحم والغليتر، أي الأدوات الملائمة لتيماته وتكويناته على الورق أو الخشب، التي تمدّ اللوحة بالغموض والواقع المؤلم، وتجمع بين الأحمر الدامي والأخضر المشعّ فرحاً (إصرار على إخراج الأمل من جوف المأساة). وفي مجموعة «أفكار متمدّدة»، يحمل شخص اللوحة أفكاراً كثيفة مثل جذور الشجرة. في لوحتين تردّاننا ‏إلى انفجار المرفأ، يمثل الموت والدمار وتشظّي المكان أشكالاً وعناصر يكتنفها الإحساس بالألم والغموض. وفي لوحة ثلاثيّة (تريبتيك) بعنوان «مذبحة» (مواد متنوعة على كانفاس ـــ 200 × 360 سنتم) يعود تاريخ تنفيذها إلى عام 2009، إحالة واضحة إلى «غيرنيكا» بيكاسو المرجعيّة، كأنّها تصوّر ما يحصل اليوم في مذبحة غزة رغم انتمائها إلى فترة سابقة. إنّه عنف التاريخ المتكرّر وثقل مآسيه.
‏رغم التشابهات والتقاطعات بين عالمَي النحت والرسم لدى نديم كرم، إلّا أننا نكتشف في معرضه خصائص أسلوبية ومفاهيمية وتكوينية ‏تفصل ما بين الفنين بشكل حاسم، وتلك ميزة إضافية للفنان الذي يقدّم رؤيتين غير متطابقتين واتجاهين منفصلين، بحيث يكون لدينا نديم كرم نحّات الأشكال المعدنية الكبيرة التي ألفنا حضورها في الفضاء العام، ونديم كرم الرسام الذي نزور لوحاته في المجال المغلق لنتأمّل عملاً فنياً مختلفاً تمام الاختلاف.

* «فصول من يوميات الأزمنة الراهنة»: حتى الثاني من أيار (مايو) ــــ «مصانع أبرويان» (برج حمود)



استغلال كارثة المرفأ؟
عشية الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، ارتفع مجسّم حديدي حاملاً شعار «مارد من رماد» بتوقيع نديم كرم في احتفال أقيم داخل مرفأ بيروت بالقرب من إهراءات القمح. النصب التذكاري بارتفاع 25 متراً وبوزن 30 طناً، وهو مصنوع من قطع الحديد التي جُمعت مكوّناتها الصلبة من بقايا عنابر المرفأ المدمّرة، للتعبير عن «استمرارية الحياة والإرادة الصلبة في البقاء»، فيما استغرق إنجازه تسعة أشهر. لكن قبل إزاحة الستار رسمياً عن «مارد من رماد»، انتشرت صور له على مواقع التواصل الاجتماعي، سرعان ما قسمت آراء روّادها. هناك من رحّب بتحويل مشاعر الحزن والغضب من الكارثة التي وقعت قبل عام إلى أعمال فنية، بينما انتشرت حملة افتراضية مستنكرة لهذه الخطوة. رأى المشاركون فيها أنّ في هذا النصب «تماهياً وتواطؤاً مع السلطة القاتلة»، مؤكّدين أنّ تخليد ذكرى الضحايا يكون بـ «تحقيق العدالة». لكن في حديث مع وكالة «رويترز»، دافع نديم كرم عن عمله الفني بالقول: «كل نوايانا إيجابية وليس لدينا انتماء لأي حزب سياسي ولا لأي خط»، مضيفاً أنّ الادعاءات حول ارتباطه بكبار المسؤولين كاذبة: «يعكس التمثال بيروت في حزنها وندوبها».