ينحت مصطفى علي أجساداً نحيلة أنهكتها الحروب والعذابات، تحمل نظراتها أسى شديداً وحيرةً وسط الفراغ. هذا ما شاهدناه في غاليري Mission d’art (منطقة مار مخايل في بيروت) التي اختتم فيها معرضه قبل أيام. ابن اللاذقية (مواليد عام 1965)الذي تخرّج من كلية الفنون الجميلة في دمشق قبل سفره إلى إيطاليا لمتابعة تحصيله الأكاديميّ في الفنون، تؤرّقه الأزمة الوجودية التي يكابدها إنسان العصر المتعب والانجراحيّ، فيغدو تحت إزميله ورؤيته وتشكيله قامةً هشّة تستدعي للتوّ منحوتات جياكوميتي الطوليّة الرفيعة، بالخشب أو البرونز أو بالحجر، وأحياناً بمزيج من خشب وبرونز ضمن إطار مغلق يشي بالاحتماء أو بالضيق، حتى لو راودنا شعور بأن هذه الشخوص تنزع إلى التحرّر والخلاص. أشكال بشرية بلا ملامح، مفرغة من مضامين إنسانيتها، في مناخ جنائزيّ مهيمن لا يوحي واقعنا العربيّ بسواه قمعاً وسجناً وموتاً.لأسلوب مصطفى علي التعبيريّ جذور في الحضارات القديمة، حتى البدائية منها التي تنطوي على قوة تعبيريّة، إذ كان الإنسان البدائي يرسم على جدران الكهوف الصخرية، ويمتدّ التأثّر إلى الحقب التاريخية اللاحقة التي ولدت فيها الأساطير وفنون الحضارات المتعاقبة كالسلتيّة والفينيقية (لا تبارحه فكرة انتمائه إلى حضارة أوغاريت على الساحل السوري حيث أمضى طفولته وبعض شبابه قبل الانتقال إلى دمشق عشقه الثاني)، ولم يتوقف عن النظر إلى العالم إلا بوصفه ثلاثيّ الأبعاد، ونظرته هذه كانت مدخله الأساسي إلى عالم النحت مطوّعاً المادة التي ينحت بها، ولكل مادة مشكلاتها وحلولها، فما يحمله البرونز من أفكار وأشكال لا يمكن أن يحمله الخشب مثلاً، إذ تتحمّل بنية الخشب موضوعاً آخر وشكلاً آخر. تتماثل القوة التعبيرية، لكنّ البنية تتغيّر.
البحث عن الخلود من التيمات الأساسية في منحوتات علي. عثر في تدمر وإرثها التاريخي الحضاري على ما يلهمه حول سؤال الوجود والموت، ففي الفن التدمريّ تلتقي الذاكرة بالحاضر. الفن في هذه المدينة الموغلة في التاريخ متجذّر في الأرض ويتصاعد عمودياً إلى السماء. من هنا يمكن تفسير تلك البنية العمودية الممشوقة لمنحوتات الفنان. فيها نوع من النهوض إلى الأعلى والتسامي والتوق إلى الأعالي والخلود لكون الموت ليس النهاية. في السنوات الأخيرة المأساوية من تاريخ سوريا، حمّل مصطفى علي أعماله أوجاع الإنسان السوري ونحت دمار البيوت في الخشب. ورغم فداحة المأساة، ظلّ مصرّاً على الاحتفاظ ببعض الأمل الذي لا يمكن للإنسان أن يتخلّى عنه بالكامل، أو يهوي في لجّة العدم.
يطلق مصطفى علي على بعض أعماله «فن الموت»، فمن الحضارات السورية القديمة التي تعتبر الموت «مرضاً معدياً» كما لدى التدمريّين القدماء، يستقي الشعائر والطقوس. أعماله صلة وصل بين فن النحت السوري القديم وحركة التشكيل المعاصرة، مشتغلاً على الفن الجنائزيّ الذي يطبع الفن التدمري القائم على الأضرحة العمودية والنعوش الأفقية والفراغ الذي يشكل البرزخ بين الروح والجسد. ومن هنا عمله وبحثه المستمرّان على التوليف بين الخشب والبرونز ضمن جسد واحد، كتوالُفِ اللحم والعظم في جسد الإنسان الحي. يركز الفنان على عالم المنحوتة الداخلي على نحو كثير الشبه بمنحوتات جياكوميتي، بحيث تبرز في منحوتاته السمات عينها للنحول والامتشاق والهيئة الشبحية والوضعية الموميائية للجسد الممدّد مثلما نعرفه في القبور الفرعونيّة والنواميس الفينيقيّة حيث تجليات المزج بين الطيف والجثة.
تلفت في معرضه البيروتي وضعيّة متكرّرة لإنسان في لحظة سقوط عند حافة (قاعدة) مادّاً ذراعيه طلباً للنجاة، أو منحنياً إلى الخلف معرَّضاً أيضاً للسقوط حاملاً بين يديه ما يشبه طفلاً من لفافة خيوط معدنية (برونزية)، أو ممدّداً أرضاً تجثم فوق جسده النحيل صخرة ثقيلة لا يقوى على رفعها. في جانب آخر، تتكرّر في منحوتات خشبية نصفيّة تيمة الرأس المشقوق الرأس نصفين بفرّاعة هوت عليه وفسخت الوجه من الجبين إلى العنق. إنّه بالتأكيد واقع الإنسان العربي المقموع، المضطهد، المفسوخ الوجه. تعبيريّة قاسية، عنيفة، إنّما بليغة الدلالة، فقد ولد الفن ليرمز ويدلّ ويتّهم مستفزّاً. ولأنّ الأسطورة القديمة ملهمة للفنان علي، فلا بدّ من أن يقترن حضور الإنسان بحضور الحيوان، وأن يقبع فوق منحوتة خشبية تحتضن شخوصاً من برونز في إطار مغلق يوحي بالسجن الانفرادي لكنّه مشرّع على مخارج الحرية، انتظاراً للأمل.
مثل اللاذقية مسقطه، وتدمر ملهمته، تحتلّ دمشق منزلة خاصة في قلب مصطفى علي، فهو يرى نفسه في ربوعها في قلب التاريخ، وتحديداً دمشق القديمة حيث سكنه ومحترفه الذي رمّمه بنفسه بما يتوافق مع البيوت الشامية. في هذه «المملكة» الخاصة، ينحت ويرسم ويحوّل المكان إلى ملتقى لفنانين وكتّاب وشعراء تدور فيه المناقشات بحضور زوّار ومهتمين بالثقافة والفن والتراث. كما أنشأ جمعية «المكان» للفنون الجميلة بغية مساعدة الموهوبين في النحت ودعم الأجيال الفنية الجديدة، فضلاً عن مشروعَي غاليري ومتحف. تاريخ مصطفى علي حافل بالمعارض العربية والعالمية، من دمشق إلى مونتريال، مروراً ببيروت والقاهرة والدار البيضاء وفالنسيا وباريس حيث يقتني «معهد العالم العربي» أعمالاً له أسوةً بالعديد من المتاحف العربية والغربية. من أعماله في الفضاءات العامة: نصب في مدينة باري الإيطالية أُنجز خصيصاً لدورة ألعاب المتوسط، و«برج الذاكرة» في مركز «معرض دمشق الدولي»، و«السيف الدمشقي» في ساحة الأمويين في العاصمة السورية (بالتعاون مع الفنان إحسان عنتابي).
---
انسيرت:
أعماله صلة وصل بين فن النحت السوري القديم وحركة التشكيل المعاصرة