يواصل فاضل الجعايبي (1945) سلسلة عروض مسرحيته الجديدة «آخر البحر» في «قاعة الفن الرابع» وسط العاصمة التونسية التي تسجّل عودته بعد ثلاث سنوات من الغياب (منذ مسرحية «مارتير» في آخر 2020). يمكن اعتبار مسرحيته الجديدة عملاً مختلفاً عن كل منجزه المسرحي السابق. للمرة الأولى منذ أن بدأ مسيرته في «فرقة مسرح الجنوب» في قفصة (جنوب غرب) سنة 1972، يقدّم عملاً من دون رفيقة دربه جليلة بكّار، كما غابت فاطمة بن سعيدان التي رافقته في كل أعماله خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة سواء في فرقته المستقلة «فاميليا» أو «المسرح الوطني» الذي أداره بين 2014 و 2020. على غير عادته في أعماله السابقة التي لا تنطلق من مرجعيات (باستثناء مسرحية «مارتير») انطلق الجعايبي من المسرحية الأغريقية الشهيرة «ميديا» فاجعة يوربيديس من القرن الخامس قبل الميلاد. ميديا ساعدت حبيبها جاسون وقدمت تضحيات كثيرة من أجله، فقد قتلت أخاها وقطّعت جثته ومن ثم ألقت بها في البحر لينشغل والدها الملك بجمع أشلاء الجثة، بينما تهرب هي مع جاسون ليتزوجا في كورنيث ويُنجِبا ثلاثة أطفال. لكنه يقابل التضحية بالخيانة فتقرر الانتقام منه ومن زوجته الجديدة! من هذه الحكاية التي تجمع بين العشق والخيانة والقتل، ينطلق فاضل الجعايبي في مسرحيته الجديدة التي يقدمها في نهاية فاجعة يوربيديس. تغادر ميديا، قاتلة إبنيها، الأرض نحو السّماء على عربة الشّمس تجرّها الأفاعي المجنّحات فراراً من عدالة البشر... في هذا المشروع تهاجر أسطورة ميديا وجاسون جغرافيّاً وتاريخيّاً من بلاد الإغريق في القرن الخامس قبل المسيح إلى أرض العرب الآن وهنا، حيث التوحّش قد بلغ أقصاه. ماذا لو إمتنعت ميديا عن الفرار ومَثُلت أمام مؤسّسات العدالة الصّارمة أمام المدافعين والمدافعات عن هذه المرأة الجانية وأمام علماء النّفس وتيّاراتهم وتناقضاتهم وأخيراً أمام الشّعوب «العظيمة» بأفكارها وأحكامها الجّاهزة المطمئنّة؟ من سيحاكم ميديا على كلّ جرائمها؟ من له شرعيّة الحكم بالحياة أو الموت أمام ما يحدث حولنا وأمامنا من مجازر وحشيّة يوميّة يقترفها الإنسان رغم تبجّحه بالإنسانيّة؟ هل إستطاعت ميديا وهي اليوم بيننا مواجهة الوحش السّاكن فينا من دون أيّ إحساس بذنب متحدّية كلّ الممنوعات.
اختار الجعايبي أن تكون ميديا القرن الحادي والعشرين «عاتقة» (صالحة النصراوي) سيدة من اليمن تتزوج من رجل أعمال تونسي مقيم في اليمن، مهووس بتجارة الآثار والمخطوطات النادرة تساعده في الفرار من بلادها بعد أن ينجح في الحصول على مخطوط نادر للقرآن من القرن السّابع وقتل شقيقها الذي اعترض على زواجها منه. تصل عاتقة اليمنية مع زوجها وابنيها منه لكنّها تكتشف وجهاً آخر لزوجها وحبيبها الذي يتركها ليعيش مع امرأة تونسية. كما تكتشف أن زوجها الذي أحبته وغادرت من أجله بلدها يتاجر في الممنوعات.
ومن هنا تبدأ المحاكمة التي تتحوّل إلى محاكمة الواقع التونسي خلال العشرية الأخيرة. ففي عشرة مشاهد، يفكّك الجعايبي كعادته الحياة اليومية للتونسيين بكل اخفاقاتها فيدين القضاء والإعلام والعقلية الذكورية (حرية المرأة وحقوقها) ورفض ثقافة الاختلاف (قضية المثلية) و«الحرقة» (الهجرة عبر قوارب الموت) التي تؤرق حياة التونسيين.
ورغم أن المسرحية هي الأطول في مسيرة أكثر من نصف قرن من الابداع المسرحي إذ تصل إلى حوالي ثلاث ساعات، إلا أنّ المتفرّج لا يملّ. هناك خيط سردي يربط بين مختلف المشاهد مع خلفية البحر التي يعتمدها عبر تقنية الفيديو. بحر متموج تموج الحياة التونسية، خصوصاً منذ 2011.
تكشف المسرحية عن القتل العبثي الذي تحوّل إلى حدث يكاد يصبح عادياً في المجتمع التونسي. كما تكشف عن الوحش الساكن في الانسان على حد عبارة الجعايبي في توصيفه لهذا العمل الذي يفتتح به مرحلة جديدة في مسيرته المسرحية بفريق جديد من الممثلين مؤكداً على قدرته على التجدد الدائم. يشار إلى أنّ هذه المسرحية من إنتاج المسرح الوطني بالاشتراك مع «مركز الفنون» في جزيرة جربة (جنوب شرق ) الذي أسّسه رفيق دربه فاضل الجزيري (أشتركا في «قفصة» و«المسرح الجديد» الذي يعدّ أوّل فرقة مستقلة بين 1975 و 1990).