في عام 1940، كتب الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (1940-1892) مؤلّفه الأخير «في مفهوم التاريخ» الذي يُعرف أكاديمياً بـِ «أطروحات في فلسفة التاريخ». بعدها، انتحر بجرعة زائدة من المورفين. قبل أن يُنهي حياته في شقته في باريس، أودع أوراقه ونصوصه لدى أمين المكتبة الوطنية الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي؛ حالما أيقن أنه عالقٌ لا محالة في أيدي النازيين الذين زحفوا عسكرياً إلى باريس. حاول بنيامين أن يهرب مع مجموعة من اللاجئين عبر الحدود الإسبانية آملاً أن يصل إلى ملاذٍ آمن في أميركا حيث زملاؤه مؤسّسو «مدرسة فرانكفورت» الفكرية، لكن الحكومة الإسبانية كانت قد ألغت بشكلٍ مفاجئٍ كل تأشيرات العبور إلى العاصمة البرتغالية لشبونة، فانهار أمله الأخير بالنجاة من جنود الرايخ الثالث. ربما كان الناقد الثقافي قد شعر بقرب موعد رحيله عن الحياة، فقد كان في المرحلة الأخيرة من حياته مأخوذاً بفكرة الماضي وفلسفة التاريخ ودور المؤرّخ الحقيقي في مواجهة سرديات البورجوازية المنتصرة (الطبقة/ السلطة المنتصرة). تأثّر بنيامين بلوحة «الملاك الجديد» Angelus Novus للرسام الألماني بول كْلِي، وخصّص لها أطروحته التاسعة مطلقاً على هذا الملاك لقب «ملاك التاريخ» واصفاً إيّاه بأنّه يقف بعينَين مفتوحتين جاحظتين، فاغراً فاهه وفارداً جناحيه، في وجه العاصفة التي تدفع بجسده نحو المستقبل، بينما هو يدير وجهه نحو الماضي وعيناه مشدوهتان. يشرح المنظّر وحارس جماليات الفن أنّ «ملاك التاريخ» لا يرى الماضي كما نتصوّره نحن البشر سلسلةً من الأحداث المتتالية، بل يراه «كارثةً واحدةً تستمر في تكديس الحطام وقذفه أمام قدميه. يرغب الملاك في البقاء، وإيقاظ الموتى، وإصلاح ما حُطّم. لكن عاصفة تهب من الجنة. لقد علقت في جناحيه بعنف، إلى درجة أن الملاك لم يعد يستطيع أن يغلقهما. تدفعه العاصفة بشكل لا يقاوم إلى المستقبل الذي يدير له ظهره، بينما تنمو كومة الحطام أمامه نحو السماء. هذه العاصفة هي ما نسميه التقدّم».
بول كلي ــ Angelus novus (حبر صيني وزيت وورق وأكواريل ـــ 24.2 × 31.8 سنتم ـــ 1920)

«لا توجد وثيقة حضارية ليست في الوقت نفسه وثيقةً همجيّة. ومثلما أنّ هذه الوثيقة غير خالية من الهمجية، فإن الأخيرة تُلطّخ أيضاً الطريقة التي نُقلت بها (الوثيقة الحضارية)». كتب بنيامين في الأطروحة السابعة متحدّثاً عن انتصار الطبقة الحاكمة وتوثيقها للتاريخ والماضي حسب سرديّتها التي تمجّد صورتها، لكنّ جلّ ما تصل إليه هذه السلطة الجديدة هو نتاج لهمجية سابقة لا يمكن محو آثارها. في هذه المقالة محاولة لقراءة موقف ألمانيا السياسي والقانوني والثقافي والإنساني من الحرب على غزة الداعم للإبادة الجديدة التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني، وهي لم تتخلّص بعد من أثر النازية وشبح الفوهرر الذي تدفع ثمنه ضريبةً سنوية لكيان الاحتلال منذ اتفاقية لوكسمبورغ (1952). كما تتناول المقالة ردة فعل الفنانين والمثقفين الذين شكّلوا مبادرة «سترايك جيرماني» لمقاطعة المؤسّسات الثقافية الداعمة للاحتلال التي تقمع حرية التعبير وتراقب سياسات الفنانين وتشترط بتمويلها للفن دعم الكيان الصهيوني.
منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وفور تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية «طوفان الأقصى» التي جاءت كالصاعقة على كيان الاحتلال، فأفقدته توازنه العسكري والاستخباراتي والسياسي، سارعت الدول الغربية للتعبير عن تعاطفها مع الصهاينة وقدِم رؤساؤها من خلف البحار إلى الأرض المحتلة في استعراضٍ استعماري بحت. وقفوا إلى جانب رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو وأعلنوا مواقفهم المؤيدة للصهيونية والداعمة لاستمرار الاحتلال على أرض فلسطين، وأغدقوه بتشريعهم للعدوان على غزة من دون شروط، مؤكدين كما جاء متكرّراً على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن بأنّ «إسرائيل ستدافع عن نفسها وفقاً للقانون الدولي». بكل وقاحة، تجاهل كبار سياسيّي أوروبا والولايات المتحدة الأميركية أصل المعركة وتاريخها الذي يمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر. تناسى جميعهم أنّ الصهاينة احتلوا فلسطين عبر ارتكاب المجازر والترهيب والتنكيل بالسكان الأصليين، والتطهير العرقي، وطرد العرب من بيوتهم، وجرف قراهم، وبناء المستوطنات على أنقاض الحياة الأولى. اللافت من بين تلك الدول هو الموقف السياسي الألماني الذي لم يتعافَ إلى اليوم من أثر الإبادة ليس فقط بحق اليهود في أوروبا، بل أيضاً بحقّ كل من كان مختلفاً عن العرق الآري وأصحاب الإعاقات الجسدية وكل من كان يعادي الرايخ أو ينتقد سياسات الحكم حينها. تُجدّد ألمانيا اعترافها المستمر بهذه الإبادة، وتعتذر عند كل فرصة مناسبة عن تلك الجريمة كأنّ تاريخها قبل هتلر كان أبيض ناصعاً خالياً من أي جرائم مماثلة.
في عام 1948 (عام النكبة واحتلال فلسطين وإعلان قيام دولة الاستيطان الصهيونية)، وقّعت 150 دولة في العالم على اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وكان من بينها الاحتلال الإسرائيلي وجنوب أفريقيا وألمانيا. لكن دور الاتفاقية لا يقتصر فقط على تجريم الإبادة الجماعية ومنع ارتكابها، بل إنها تُلزم الدول المشاركة على رفض أي إبادة وحظرها. سمحَت هذه الاتفاقية لجنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2023 ضد دولة الاحتلال بتهمة انتهاك التزامها بالاتفاقية، وارتكابها الإبادة الجماعية المتعمّدة في حق الفلسطينيين في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. وحين أتى دفاع الاحتلال عن نفسه ضعيفاً جداً وغير مقنعٍ وظهر فيه تكرار الأكاذيب الدعائية الصهيونية (قطع رؤوس أطفال إسرائيليين) والتضليل (عرض صورة للأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية جاء فيها تكرار لصور الأشخاص حتى يبدو العدد كبيراً أمام المحكمة ويؤثر عاطفياً لمصلحة موقف الاحتلال)، فاجأت ألمانيا العالم بموقفها. إذ أعلنت أنّها ستنضم إلى المحاكمة كطرفٍ ثالث بموجب المادة 63 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، لتقوم «بمساعدة المحكمة بتفسير المعاهدة» وفقاً لموقع قناة DW الألمانية. وكانت الحكومة الألمانية قد صرّحت في بيان صحافي أنّها تعارض بحزم أي «استغلال سياسي» لاتفاقية منع الإبادة الجماعية، وأنّها ترفض الاتهامات الموجهة إلى الاحتلال الصهيوني «التي لا أساس لها من الصحّة». هذا الموقف الصادم الذي يأتي في دعم إبادة الغزيّين والتهجير القسري بشكل مباشر وعلني، دفع بجمهورية ناميبيا إلى تذكير ألمانيا بتاريخها الاستعماري، كما جاء في بيان مكتب الرئيس الناميبي هاكه كينكوب: «على الأراضي الناميبية، ارتكبت ألمانيا أول إبادة جماعية في القرن العشرين بين عامَي 1904 و1908، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف غير إنسانية ووحشية للغاية».

وقّع مئات الفنانين والأدباء على العريضة التي تدعو إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية من بينهم آني إيرنو

لم يقتصر دور ألمانيا على دعم الإبادة سياسياً وقانونياً، بل امتدّ إلى جميع الأصعدة الثقافية والفنية والتعليمية حتى أثبتَت أنّ «جهاز الدولة القمعي» لا يختلف عن «المؤسسات الأيديولوجية للدولة» حسب الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير (راجع الأخبار 13/2/2024). في الوقت الذي حرّكت فيه الدولة الألمانية جهاز الشرطة في وجه المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية والداعمين لوقف العدوان الصهيوني على غزة، مستخدمةً العنف عبر التعرض للمواطنين واعتقالهم وقمع أصواتهم لمجرّد أن رفعوا لافتةً في الشارع تدعو إلى وقف إطلاق النار، جاءت المؤسسات الثقافية والفنية لتقوم بالدور نفسه، وتستخدم العنف المختبئ خلف الأيديولوجيا. في الفترة الأولى من الحرب، ألغت ألمانيا العديد من الفعاليات الثقافية بذريعة «تباينات في وجهات النظر حول الحرب»، ثم أصدر منظمو «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب» في 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بياناً أعلنوا فيه عن تضامنهم الكامل مع كيان الاحتلال، وقاموا بإلغاء منح الكاتبة الفلسطينية المقيمة في برلين عدنية شبلي، جائزة أدبية عن روايتها «تفصيل ثانوي» (2017 ـــــ الأخبار 15/10/2023)، التي تُرجمت إلى الألمانية واعتبرتها لجنة التحكيم المسؤولة عن الجائزة «عملاً فنّياً محترفاً يعالج مسألة الحدود والصراعات، وما تحفره الصراعات الدموية في كينونة الإنسان». وقبل ثلاثة أعوام كانت قناة DW الألمانية الناطقة بالعربية قد اتّهمت عدداً من الصحافيين العرب المناصرين للقضية الفلسطينية بتهمة «معاداة السامية» لتبرير طردهم من الشبكة («الأخبار» 9/12/2021). لكن الحدث الأبرز جاء أخيراً عن مجلس الشيوخ في برلين الذي أعلن أنّه سيبدأ من الآن فصاعداً بالطلب من الفنانين والعاملين في المجال الثقافي الموافقة على تعريف إشكالي لمعاداة السامية كشرط للحصول على تمويل من الدولة، ويبرّر عضو مجلس الشيوخ عن الثقافة في برلين، جو تشيالو، هذه الخطوة بأنّها «تمنع دعم التعبير العنصري والإقصائي». أدّت هذه الخطوة إلى إثارة احتجاجات في الوسط الثقافي الألماني، واعتبرت مجموعة «سترايك جيرماني» التي تشكّلت حديثاً «دعوة لرفض استخدام المؤسسات الثقافية الألمانية للسياسات المكارثية التي تقمع حرّية التعبير، وتحديداً تلك التي تقمع التعبير عن التضامن مع فلسطين» كما جاء على موقعها الرسمي (strikegermany.org) وحسابها على موقع إكس. رفض الفنانون والمثقفون حول العالم أيضاً الموافقة على التعريف الجديد الذي تطرحه الحكومة الألمانية لـِ«معاداة السامية» وأطلقوا عليه مصطلح «معاداة السامية المستوردة»، أي إنّه يمزج بين «معاداة الصهيونية» و«معاداة السامية». رأت مبادرة «سترايك جيرماني» أنّ هذا التعريف الجديد الذي تسعى الحكومة الألمانية إلى إلزام العاملين في المجال الثقافي على تبنّيه ما هو إلا خطوة عملية لحماية الاحتلال الإسرائيلي من أي انتقاد ضد سياساته العنصرية ومشروعه الاستيطاني في فلسطين، كما يفتقر التعريف إلى الدقة القانونية فيما قد يحدّ من الحقوق الأساسية، وخصوصاً حرية التعبير في الفنون.
منذ الهولوكوست، حصر الغرب مفهوم «معاداة السامية» باليهود ومعاداتهم، ووظفه كسلاح مخيف تجاه كل من يحاول الإشارة إلى جرائم الصهيونية بحقّ الفلسطينيين أو حتى نقد سياسات الفصل العنصري التي يقوم بها الكيان العبري. لكن مصطلح «معاداة السامية» يعود في أصله إلى العرق السامي ولغاته المتعددة من بينها البابلية والآشورية والكنعانية والعربية والعبرية، وكان أول من استخدمه الببليوغرافر «غير المؤيد للصهيونية» موريتز ستاينشنايدر (1816-1907)، أحد مؤسسي اليهودية، حين كان يطرح نقداً لنظرية تراتبية وطبقية الأعراق عند المؤرخ الفرنسي إرنست رينان، رافضاً فكرة أنّ العرق الآري يتفوّق على نظيره السامي من حيث الفهم والثقافة والمعرفة. وكان الأكاديمي الفلسطيني جوزيف مسعد الذي تعرّض لتهمة «معاداة السامية» قد وضّح أنّ المصطلح لا يقتصر على اليهود فقط، بل يشمل التنميط السلبي للعرب والمسلمين والتحيّز ضدّهم. وبالتالي، فإنّ اليهود أنفسهم يمارسون العداء للسامية في تعاملهم مع الفلسطينيين والعرب (الأخبار 25/10/2023).
مجموعة «سترايك جيرماني» تشكّلت حديثاً بهدف «رفض استخدام المؤسسات الثقافية الألمانية للسياسات المكارثية التي تقمع حرّية التعبير»


لاقت العريضة التي تدعو الفنانين إلى «تعليق العمل والحضور في المؤسسات الثقافية الألمانية والإحجام عن المشاركة في المهرجانات والمؤتمرات والمعارض في ألمانيا، حتى تتم تلبية المطالب»، ترحيباً وتضامناً عالمياً فوقّع عليها المئات من العاملين في الوسط الفني والثقافي، من بينهم الكاتبة الفرنسية الفائزة بجائزة «نوبل للآداب» عام 2022 آني إيرنو (1940) التي تُعد أول امرأة فرنسية تحصل على الجائزة. تكمن أهمية صاحبة كتاب «السنوات» (2008) في أنّها مناهضة للعنصرية وقّعت سابقاً عريضتَين (2018-2019) تدعوان إلى مقاطعة المبادرات الثقافية بين فرنسا والاحتلال الصهيوني لأنّ ذلك «يأتي على حساب الشعب الفلسطيني». كما قامت الروائية البوسنية الصربية لانا باستاسيتش الحائزة «جائزة الاتحاد الأوروبي للأدب» (2020) بقطع علاقتها مع دار نشر ألمانية اعتراضاً على «صمتها على الجرائم الإسرائيلية». وصرّحت أنّ «دعم ألمانيا الرسمي والقوي لما تفعله الحكومة الإسرائيلية بعيد كل البعد عن الإنسانية، ومن مسؤوليتي التنديد به بسبب نفاق ألمانيا وقبولها للتطهير العرقي في غزة». اللافت أنّ صاحبة كتاب «صيد الأرانب» (2020) تحدّثت عن المزايا الهامة والفرص التي كانت ستحصل عليها من التعامل مع دار النشر الألمانية (S. Fischer) من بينها «المشاركة في المهرجانات التجمعات الأدبية، لكن تلك المكاسب لم تثنها عن تجاهل معاناة الفلسطينيين». وكانت الكاتبة قد نشرت مقالاً في صحيفة الـ «غارديان» وصفت فيه القصف الإسرائيلي لغزة بـ«العقاب الجماعي». ووقعت على العريضة أيضاً الكاتبة الإيرلندية شارلوت برودجر الفائزة بجائزة «تيرنر» البريطانية (2018)، والممثلة إنديا مور. وانضم فنانون عرب أمثال الأردني لورنس أبو حمدان، المحقق الصوتي الحائز جائزة «تيرنر»، والناشط الفلسطيني محمد الكرد، والفنانة الفلسطينية جمانة مناع. كما بدأت وثيقة المقاطعة هذه تجذب أكاديميين حول العالم وجدوا أنّه آن لهم أن يشاركوا في وقف إبادة جيش الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين في غزة، من بينهم الباحث الأكاديمي نادر أندراوس.
في الوقت الذي تدّعي فيه ألمانيا خروجها من عصر النازية العنصرية التي ارتكبت إبادة بحق كل من اعتبرته دون العرق الآري، إلى عصر الديموقراطية والثقافة والفن وحرية التعبير، يقف الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين ليكرّر جملته «لا توجد وثيقة حضارية ليست في الوقت نفسه وثيقة همجية» بينما يحلّق «ملاك التاريخ» جاحظاً عينيه وفاغراً فاهه، تدفع عاصفة التقدم والحضارة جسده إلى الأمام، لكن وجهه المشدوه يميل إلى الخلف، فلا يرى سوى كارثة تستمر في تكديس الحطام وقذفه أمام قدميه.

* رابط العريضة

https://twitter.com/strikegermany/

https://www.aa.com.tr/en/europe/bosnian-author-cuts-ties-with-german-publisher-to-protest-its-silence-on-humanitarian-crisis-in-gaza/3110500