تبدأ الباحثة الفرنسية نجلاء نخلة سيروتي كتابها «فلسطين على المسرح» ( La Palestine sur scène ـــــ منشورات جامعة رين ـــ 2022 ) بحادثة انتحار مؤسس المسرح الوطني الفلسطيني فرانسوا أبو سالم (1951 ـــ 2011) الذي سبقه ببضعة أشهر اغتيال المخرج جوليانو مير خميس في مخيم جنين في الضفة الغربية. لقد ترك غياب هذين الرجلين فراغاً كبيراً في المشهد الثقافي الفلسطيني وطرح إشكالية كبرى تتعلّق بالتفكير في الإنتاج المسرحي في بلاد تجتاز صراعاً دموياً عنيفاً منذ عقود طويلة. تثير الباحثة مسألة الصعوبات التي واجهتها أثناء إعداد دراستها عن المسرح الفلسطيني المعاصر بسبب غياب المصادر الوافية والأرشيف حول المسرح العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص. تتطرق إلى التعقيدات التي تعيق الإبداع المسرحي على أرض مُجزّأة ومحاصرة وصعوبة التنقل بين المدن، خصوصاً بعد إقامة الجدار العازل عام 2002، بالإضافة إلى المعوّقات الإسرائيلية (رقابة، ومنع، وتعقيدات الحصول على التصاريح والأذونات). تُميّز شيروتي بين التجربة المسرحية لفلسطينيي الداخل في حيفا والناصرة حيث تتركّز فرق مسرحية غالبيتها «مستقلّة»، ولكنها تتبع لوزارة الثقافة الإسرائيلية، والتجربة المسرحية في الضفة الغربية حيث بدأ المسرح يتبلور اعتباراً من سبعينيات القرن العشرين، وقطاع غزة الذي ظلّت الحركة المسرحية فيه أقرب إلى تجارب الهواة.

يبدأ كتاب «فلسطين على المسرح» بحادثة انتحار مؤسس المسرح الوطني فرانسوا أبو سالم (الصورة من أرشيف «المتحف الفلسطيني الرقمي» تعود إلى عام 1983)

تُعتبر هذه الدراسة جديدة ومبتكرة لأنها اعتمدت منهجية بحثية حديثة هي «المقاربة الجغرافية» géocritique التي وضع أُسسها البروفسور الفرنسي برتران وستفال (1962). تهتم هذه المقاربة بالمكان وتطوُّر تمثيله في الأعمال الأدبية وتأثيره في الإبداع الفنّي والتعبير اللغوي، خصوصاً أنّ المسرح يُقدّم اقتراناً فريداً بين فضاءات عدّة: الفضاء المُمثَّل (المرجع)، والفضاء السينوغرافي وفضاء النص. وقامت المؤلفة برحلات ميدانية إلى المسارح في رام الله، وحيفا، والقدس، وبيت لحم بهدف جمع النصوص المسرحية ولقاء الممثلين والمخرجين ومراقبة ظروف الإنتاج وكيفية تلقّي الجمهور للعرض المسرحي بشقّيه السمعي والبصري. أمر أتاح لها دراسة معمّقة للممارسة المسرحية بأبعادها كافةً. كما أثارت الباحثة مسألة نقص التمويل الذي يعانيه المسرح الفلسطيني، ما يُجبر الفرق المسرحية على الاعتماد على دعم المؤسسات والمنظمات الدولية.
تعتمد هذه الدراسة على تحليل عميق لستّ مسرحيات تم تأليفها في المدة الممتدة من 2006 إلى 2016، تعرض وجهات نظر متنوّعة، تعكس تعقيد الواقع الفلسطيني. المسرحية الأولى «ركب» (2006) لطاهر نجيب مونودراما تحكي بأسلوب ساخر قصة ممثل فلسطيني من الأراضي المحتلة عام 1948، يسافر من رام الله إلى باريس لتقديم عرض مسرحي، ويصادف موعد عودته إلى فلسطين العاشر من أيلول (سبتمبر)، أي قبل يوم واحد من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. المسرحية الثانية «في ظل الشهيد» (2010) لفرانسوا أبو سالم وباولا فونفيك، تروي قصة هذيان شاب في مستشفى الاضطرابات العقلية. بعدما كان يدرس الطب، أصيب بحالة نفسية بسبب فقدانه أخاه في عملية استشهادية داخل الخط الأخضر. المسرحية الثالثة بعنوان «نص كيس رصاص» (2011 ـــ تأليف كامل الباشا ـــ إخراج عبد السلام عبده) تدور أحداثها حول محاولة كاميليا إعادة افتتاح مقهى حجي صالح الذي مات شهيداً إثر معركة القسطل تاركاً ميراثاً عظيماً، تحاول كاميليا إحياءه بعد أربعين عاماً من رحيله.
تتناول الدراسة أيضاً مسرحية «خارج المكان» (2012) وهي نص درامي لرامي خضر يتأمل في أشكال الاحتلال وعواقبه على الفرد والجماعة. أما مسرحية «الزمن الموازي» (2014 ــ تأليف وإخراج بشار مرقس)، فتعيد للأسرى إنسانيتهم، وهي مُستوحاة من حياة الأسير الفلسطيني وليد دقة ورسائله، الذي يقبع في سجون الاحتلال منذ 38 عاماً. المسرحية الأخيرة «طه» (2014) لعامر حليحل، تستلهم حياة الشاعر طه محمد علي، لأن ما مرّ به يشبه كثيراً ما عايشه الفلسطيني نتيجة التهجير، ولكنه انتصر على النكبة بشعره الذي خرج من المحليّة إلى العالميّة.
يتميّز عمل نجلاء نخلة سيروتي بتركيزه على الجانب الجمالي المحض للمسرحيات بعيداً عن الأيديولوجيا السياسية للصراع العربي الإسرائيلي. تستكشف الكاتبة المساحات الجغرافية الحقيقية التي يمارس فيها الفلسطينيون المسرح، وخصوصية الشكل المسرحي الذي ينبثق في ظل الاحتلال، وكيفية تمثيل الفضاء الفلسطيني في النصوص الدرامية وعلى خشبة المسرح. ترى الباحثة أنّ المسرح الفلسطيني المعاصر يتميّز بقدرته على الارتقاء فوق المشهد السياسي، والتركيز على تحقيق رؤية فنية تجمع بين الجمال والشعر والأدب، وبذلك يُسهم في إثراء المسرح العالمي بمواضيع وأساليب تعبّر عن هويّة فلسطينية متجدّدة ومتنوعة.
يسمح المونولوج بإبراز الصوت الفلسطيني بشكل مباشر


تلحظ الباحثة أيضاً هيمنة المونولوج الذي يعتمد على ممثل واحد يسرد قصة أو يُعبّر عن رأي وشعور معيّنين، أو يناقش موضوعاً ما بأسلوب يذكر بالحكواتي، وهذا يجعله مناسباً للظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال، بسبب ندرة الموارد وتضييق الحريات. كما يسمح المونولوج بإبراز الصوت الفلسطيني بشكل مباشر، ويخلق اتصالاً وثيقاً مع الجمهور. وقد بدأ المونولوج ينتشر في المسرح الفلسطيني منذ بداية القرن الحادي والعشرين، متناولاً موضوعات مهمة في الحياة الفلسطينية، مثل اللّغة، والأرض، والنكبة، وحق العودة، والاعتقال، وأبلغ مثال على ذلك «مونولوجات غزة» وهي مجموعة من النصوص كتبها أطفال فلسطينيون عن تجاربهم ومعايشتهم الذاتية للحرب على قطاع غزة، وقد لاقت شهرة عالمية.
ترى نجلاء نخلة سيروتي أنّ المسرح المعاصر يشهد انعطافة كبيرة عبر التركيز على السردية الذاتية والشهادات الشخصية. هناك ميل واضح لدى الجيل الجديد لتفكيك الصورة الأسطورية لفلسطين كأرض مقدّسة ومباركة تحمي أبناءها وتغذيهم، وتقديم رؤى أكثر تعقيداً تتمحور حول مفهوم النفي الداخلي والتشتّت النفسي الذي يعيشه الفلسطينيون بسبب واقعهم المأساوي. يلجأ المسرحيون إلى الاستخدام الكثيف للحجرة المغلقة كرمز لفلسطين المحتلة في إشارة واضحة إلى السجن الجسدي والنفسي الذي يشعر به الفلسطينيون في ظل الاحتلال، أو للحظات مشهدية مؤثرة كمشهد الأسير حاملاً صليبه على شكل سلم خشبي ثقيل في دلالة على الوجع والاضطهاد الذي يلقاه من السجّان الإسرائيلي كما في مسرحية «الزمن الموازي».
يمكن القول إنّ كتاب «فلسطين على المسرح» يوفّر دراسة شاملة عن المسرح الفلسطيني المعاصر، وقد تمكّنت الباحثة من إلقاء الضوء على تعقيد تمثيلات فلسطين على الخشبة وثرائها في عقد من الزمن، واستطاعت أن تُبرز تأثير المكان على التجربة المسرحية.
في الختام تشير الباحثة إلى أنّ النموذج الحالي للمسارح في فلسطين، مع القاعات المبنية بطريقة كلاسيكية (ركيزة مرتفعة في الجهة الأمامية)، لا يتناسب مع الإنتاجات المسرحية التي يقدّمها ممثل واحد. لذلك، تقترح الباحثة نموذجاً جديداً للبناء يتمّ فيه وضع الجمهور في مركز عملية الإبداع، ليشارك في صناعة المعنى. هذا النموذج الأفقي يقضي على هيمنة المُمثل على الجمهور الناتج عن استخدام المنصّة، ويخلق تواصلاً بين كل عناصر عملية الإبداع: الفنان، النص، الجمهور، والمسرح.