في حربه على غزة، لا يميّز العدو الصهيوني بين حجر وبشر، ولكنه يستهدف التاريخ والثقافة والحضارة وكل معالم الإنسانية. فالحرب الدائرة اليوم هي إبادة ثقافية بكل ما للكلمة من معنى. غزة ليست مكاناً محاصراً فقط، إنما تمتلئ بالمعالم التاريخية والثقافية والإنسانية، لأنّها مدينةٌ يعود تاريخها إلى ما يزيد على أربعة آلاف سنة، حاصرها الإسكندر الأكبر لمدة خمسة أشهر قبل فتحها في عام 332 قبل الميلاد وأصبحت مركز العلم والفلسفة للحضارة الهيلينية. وفي عصرنا الحالي، بلغ عدد المراكز الثقافية في غزة ستة وسبعين مركزاً، وثلاثة مسارح. أما عدد المكتبات العامة، فيصل إلى 80 مكتبة، ودور النشر والتوزيع إلى 15 مركزاً.
وعندما يستهدف العدو هذه المراكز، فإنه يعرّف على نفسه بعدوٍّ للحضارة والتاريخ والإنسانية، وكأنه يحاول محو هذه الآثار الشاهدة على حقّ البقاء والمقاومة والانتماء إلى تاريخ الأرض.
◄ المكتبات
في العدوان الأخير، كما في حروبه السابقة، دمّر العدو المكتبات على رأسها «مكتبة الشروق الثقافية (المعرض الدائم للكتاب)»، و«مكتبة سمير منصور» في غزة التي قُصفت أيضاً عام 2021. تعتبر مكتبة سمير منصور أكبر مكتبة ودار نشر تجارية في غزة، أسّسها بشكلها الحالي عام 2000، بعدما ورثها عن والده الذي كان يعمل فيها منذ الثمانينيات. بعد قصفها عام 2021، أدّت حملة تضامنية عربية واسعة إلى إعادة بنائها عام 2022 وتوسّعت حتى باتت تضمّ 300 ألف كتاب، لتقصفها إسرائيل أخيراً ضمن عدوانها الهمجيّ على القطاع. كما قُصفت مكتبة «مركز الثقافة والنور» التي تعتبر من أقدم المكتبات في قطاع غزة، وتقع في حيّ الرمال. ودمّر الاحتلال مكتبة ديانا ماري تماري صباغ التابعة لـ «مركز رشاد شوا الثقافي» التي شهدت فعاليات ثقافية وحملات تشجيع قراءة وتحتوي على حوالى عشرين كتاباً. أما «مكتبة بلدية غزة العامة»، الواقعة في شارع الوحدة، وتحتوي مئات آلاف الكتب، فقد أدّى القصف إلى احتراق المبنى وتضرّره إلى جانب قصف مقرّ الأرشيف المركزي الواقع في المبنى التاريخي لبلدية غزة. افتُتحت المكتبة العامة في عام 1999 لتُعدّ الأكبر في غزة، إذ تحتوي على أكثر من 20,000 عنوان ووثيقة تاريخية. استهدف الاحتلال مبنى المكتبة المكوّن من طابقين وسرداب بشكل مباشر، فاحترقت آلاف الكتب والوثائق من مقتنيات المكتبة. أما الأرشيف المركزي، فيضمّ آلاف الوثائق التاريخية المتعلّقة بتاريخ المدينة والمخطّطات العمرانية لمبانٍ ذات قيمة أثرية، ووثائق بخط اليد لشخصيات فلسطينية بارزة. استُهدف بشكل مباشر بالقصف، ما أدى إلى حرق معظم الوثائق. لكن رئيس بلدية غزة قال إنّ جزءاً من الوثائق تتوافر منه نسخ رقميّة وفقاً لما نقله موقع «حبر». وقد قصف الاحتلال أيضاً «مركز رشاد الشوا الثقافي» الذي تأسّس عام 1985 في حي الرمال، ويعتبر أول مركز ثقافي في فلسطين جاء رداً على سياسة الاحتلال في محو التراث الفلسطيني وهوية البلاد، ويحتوي المبنى على أقدم وأكبر قاعة مسرح، وكان له مبنى فريد من تصميم المهندس السوري سعد محفل، رشّحه للحصول على «جائزة الآغا خان للإبداع في الهندسة المعمارية».
تعتبر «كنيسة القدّيس برفيريوس» ثالث أقدم كنيسة في العالم

◄ المراكز الثقافية
طال القصف الإسرائيلي أيضاً «هيئة دار الشباب للثقافة والتنمية» وهي مؤسسة تقع غرب مخيم جباليا ومكوّنة من ثلاثة طوابق. تهدَّم الطابق الثالث وتضرّرت الطوابق الأخرى، كما تضرر الاتحاد العام للمراكز الثقافية غرب مدينة غزة، الذي يعتبر من أهم أذرع الثقافة في غزة. وقد مسح الاحتلال جزءاً كبيراً من «مؤسسة السنونو»، التي تعتبر من أهم المؤسسات الموسيقية في غزة، انطلقت عام 2010، وأسّست «كورال السنونو» الذي يجمع الأطفال الفلسطينيين ضمن برنامج موسيقي – تعليمي موحّد يضيء على التراث الغنائي الفلسطيني والموسيقى العربية في كلٍّ من الأراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا والأردن، وتحتوي المؤسسة على مئات الآلات الموسيقية. كما تدمَّر مركز «جمعية أبناؤنا للتنمية» الذي يقع في حي الرمال، ويقدم الرعاية لأكثر من 120 طفلاً وعشرات الأسر، وينظّم عدداً من الأنشطة الثقافية التي تستهدف الطفل والمرأة والشباب في المسرح والمعارض الفنية والسينما. وتدمّر أيضاً «مركز غزة للثقافة والفنون» الذي كان يقدّم العروض السينمائية والمعارض التشكيلية. كما تدمّرت «جمعية حكاوي للثقافة والفنون»، و«الجمعية الفلسطينية للتنمية وحماية التراث» الواقعة في بيت لاهيا، و«محترف شبابيك» الذي كان بمنزلة معرض دائم للفنانين في غزة. لم يوفّر الدمار «قرية الفنون والحرف» التي تأسّست عام 1998 وفقاً للطراز المعماري الإسلامي، وهي تنقسم إلى غرف، وبيوت للتطريز والخشبيات والنحاسيات وتُعنى بإبراز الأصالة والتاريخ الفلسطينيّين. وطال القصف الإسرائيلي «مسرح الوداد» التابع لـ «جمعية الوداد للتأهيل المجتمعي»، وهو مسرح مجهّز يتّسع لأكثر من ثلاثمئة شخص. ولا ننسى طبعاً «جمعية البيادر» في منطقة تل الهوا التي بدأت كفرقة مسرحيّة، وكانت من أبرز مسرحيّاتها «المهرج» و«أبيض وأسود».
أما الفنون التشكيلية، فقد دمّرتها الآلة الوحشية أيضاً، فكان من أبرز الصالات التي تضرّرت «غاليري التقاء للفنون البصرية المعاصرة» التي كانت تتيح للفنانين الشباب تقديم مشاريعهم الفنية والحصول على التدريب اللازم وعرض أعمالهم.
تضرّر «مسجد السيد هاشم» الذي يحتضن قبر جدّ الرسول محمد (تصوير محمد السنوار)

◄ المتاحف والمباني التاريخية
استهدفت طائرات الاحتلال الصهيونية المتاحف أيضاً، فقد دمّرت متحف رفح، الذي يجمع مئات الأدوات المتعلقة بالتراث الفلسطيني القديم من أزياء وأدوات قديمة تعكس ثقافة البدو والفلّاحين وسكان المدينة وأهم الأزياء التراثية الفلسطينية. وحطّم القصف أيضاً متحف خان يونس، والعقاد وشهوان والخضري ومتحف البادية، و«متحف القرارة الثقافي» الذي تأسّس في عام 2016 في بلدة القرارة شرق خان يونس، ويضمّ أكثر من 3,500 قطعة أثرية. أما ثالث أقدم كنيسة في العالم، وهي «كنيسة القدّيس برفيريوس»، فقد دمّرها الاحتلال واستشهد داخلها ثمانية عشر شخصاً، وهي تقع على بعد 230 متراً عن «مستشفى المعمداني» التي ارتكب فيه الاحتلال مجزرةً راح ضحيّتها المئات من الشهداء. وتضرّر الجامع الذي دُفن فيه جد الرسول محمد، وهو «مسجد السيد هاشم»، إلى جانب مسجد كاتب الولاية الذي بُني أيام حكم السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وهو مثال على التعايش الإسلامي المسيحي، حيث تجاور مئذنته كنيسة الروم الأرثوذكس، ويقع في حي الزيتون في غزة. واستهدفت طائرات الاحتلال أيضاً المسجد العمري الكبير، فتدمّرت مئذنته.
وداخل حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، سنجد بيت السقا الأثري، الذي دُمّر بالكامل، فهو يجسّد ملامح غزة القديمة، إذ يعود تاريخ بنائه إلى 400 عام، وتبلغ مساحته 700 متر. كما قصف الاحتلال مبنى عائلة طرزي القديم الواقع في حي الرمال.
وأما قلعة برقوق التي أنشأها أحد سلاطين المماليك، فقد تدمّرت أيضاً، هذه القلعة التي نُقش على بوّابتها القديمة تاريخ بنائها (عام 1387)، تعتبر من أهمّ المواقع الأثرية، بناها الأمير يونس بن عبد الله النورزي بناءً على طلب من السلطان برقوق، أحد سلاطين العصر العربي الإسلامي المملوكي ومؤسّس دولة المماليك البرجية. وقد بُنيت لتكون مركزاً يتوسّط الطريق بين دمشق والقاهرة، يتّخذه التجّار والمسافرون مكاناً للراحة واللقاء والتزود بما يلزمهم من حاجيات في تلك الرحلة الطويلة بين أكبر مدينتين في دولة المماليك البرجية حينها، بالإضافة إلى الاحتماء من اللصوص وقطّاع الطرق الذين كانوا يعترضون طريق المسافرين في هذه الحقبة. أيضاً، طال القصف تلّ رفح الأثري أو «تل زعرب» الذي يحوي آثاراً تعود إلى خمس حضارات قديمة: الفرعونية، الرومانية، اليونانية، البيزنطية، والإسلامية. ومن أبرز الآثار التي قُصفت أيضاً: الجندي المجهول الذي يُعتبر من أبرز معالم غزّة التاريخية، بُني عام 1956 ليرمز إلى نضال الشعب الفلسطيني.
◄ الجامعات والأعلام
ولأنها أيضاً حربٌ على الكلمة والكتاب، وعلى الهوية والتراث، استهدف العدو جامعة الأزهر وهي ثالث أقدم جامعة في العالم، يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1920. هكذا، تضرّرت مكتبتها ومكتبة الجامعة الإسلامية، و«جامعة القدس المفتوحة» في غزة. واستهدف الاحتلال غالبيّة مباني الجامعة الإسلامية، التي تقع في حي الرمال، في الأيام الأولى من العدوان على القطاع، وطال الاستهداف مكتبتها المركزية، وهي من أكبر مكتبات غزة، ما أتلف معظم مقتنياتها. وكانت مباني الجامعة قد قُصفت كذلك في حربي 2008 و2014.