تفاجأ كثيرون من التَّحوُّل المطلَق لموقف فرنسا الرّسمي تجاهَ الصراع العربي-الصهيوني على إثر «طوفان الأقصى»، متحجِّجين بقيم الثورة الفرنسيَّة وفكر الأنوار وباريس عاصمة الحريَّات، متناسين أنَّ تاريخ فرنسا الأبرز هو أنّها قوة كولونياليَّة شهدت أعنفَ ثورتين في تَاريخ القرن العشرين (الفيتناميَّة والجزائريَّة). كيف لفرنسا، الكولونيالي العتيق، ألا تتعاطف مع «إسرائيل» الكولونيالي الرَّاهِن؟ ثمَّة من تفاجأ أكثر من سكوت النّخبتين السياسية والثَّقافيَّة، بل تواطئهما، على إبادة الغزاويّين. باستثناء قوى يساريَّة راديكاليَّة قليلة، تؤمن بمقولة الإمبرياليَّة في تحليلها لصراع الشعوب مع حكومات الشركات المتعدّدة الجنسية، وصارتْ تُتَّهَمْ بالنَّزعة الإسلامية-اليساريَّة، وباستثناء منابر إعلاميَّة قليلة، كـ «ميديابارت» وInvestig’action، اجتمع المشهد الفرنسي المؤسساتي بأكمله على محاولة قمع التظاهرات المناصرة للفلسطينيِّين. لكن الأمرَ سيبدو طبيعيّاً جدّاً لو عدنا إلى مقارنة بين الاستيطان الفرنسي في الجزائر والاستيطان الصهيوني في فلسطين، إذ لا يكاد شيء يفرِّق بين دمويتهما وعنصريَّتهما ونزوعاتهما الإباديَّة سوى أنَّ الأوَّل إلحاقي طُرد لاحقاً، والثَّاني إحلالي سيُطرد في المستقبل. كلُّ هذه السِّماتِ سنحاول تتبُّعها عبر صورة مصغَّرة تتمثَّل في كاتب فرنسي بارز عُرِفَ جوراً بكونه تحرُّرِياً ينشد الحريَّة لكل الشعوب. سنتتبع مواقفه الحربائيَّة تجاه احتلال فرنسا للجزائر. ألبير كامو (1913 ـــــ 1960) الذي انخدع به بعض القوميين العرب باعتباره كاتباً وجودياً مدافعاً عن حقِّ تقرير المصير.

كاتب ياسين: كان كامو مناصراً لنا لكن ليس من أجل الاستقلال، إنَّما من أجل تعامل أقل وحشية وعنصرية مع السكّان الأصليين

في يوم 8 أيار (مايو) 1945، دعا «حزب الشعب» الجزائري إلى تنظيم تظاهرات في سْطِيفْ وكلمة للمطالبة بالإفراج عن زعيمه مصالي الحاج (الذي كانت تعتقله سلطات الاحتلال الفرنسي منذ نيسان/ أبريل 1944)، وللمطالبة باستقلال الجزائر. تحوّلت هذه التظاهرات إلى أعمال عنف في سطيف على إثر تدخّل الشرطة التي حاولت بالقوة منع المتظاهرين من رفع العلم الجزائري (مثلما يحدث اليوم مع العلم والكوفية الفلسطينيَّين في العالم «الحرّ») أو التعبير عن آرائهم بأي شكل من أشكال أو النداء بالمطالب الوطنيَّة الاستقلاليَّة. على إثرَ ذلكَ، قُتل مدنيُّونَ من الأقدام السوداء (التّعبير الذي كان يطلَق على المستوطِنين الفرنسيين)، فانتفضت المنطقة بأكملها، وشن الجيش الفرنسي حرباً بلا هوادة على المدنيين الجزائريين حتى 24 أيار. وأسقطت القوات الجوية 41 طنّاً من القنابل على قرى المتمردين، كما قصفت البحرية الفرنسية المنطقة، فيما أطلقت القوات البريَّة 858 قذيفة. وانضمَّت مليشيات الأقدام السوداء إلى الجيش الفرنسي. كان عدد الشهداء عشرة آلاف وفقاً لضابط مخابرات فرنسي؛ بينما قدَّرَهم الجيش الأميركي بـ 17 ألفاً. وتشير هذه الأرقام إلى أنّ هذا ليس مجرّد قمع، بل مذبحة استعماريَّة ضد سكان مدنيين. لم تتم معاقبة أي معمِّر، ولم يتم توجيه الاتهام لأي مسؤول في الجيش الفرنسي؛ الذي أعدمَ مئات المدنيين الجزائريين بعد محاكمات صورية.
كان كامو يقوم بتغطية أحداث الجزائر عندما وقعت حمامات الدم هذه. لدى عودته إلى باريس، نشر سلسلة من المقالات، تثيرُ أحداها فورة «الرغبات المضطربة في السلطة والتوسع» التي «لن تُغفَر إلا إذا عوَّضنَاها برغبة يقظة في العدالة وبتفانٍ لا ينقطع». يتحدث كامو هنا، بكلماتٍ نصفِ مموَّهة، عن سْطِيفْ وكلْمَة. خصَّص لهما بضعة أسطر فقط، أسطر موجَزة ولكنها فاضحة: «أثارت مذابح سْطِيفْ وكلْمَة استياءً عميقاً وسخطاً بين الفرنسيين في الجزائر. أدى القمع الذي أعقب ذلك إلى خلق شعور بالخوف والعداء بين الجماهير العربية».
«المذبحة»، بالنسبة إلى كامو إذن، هي مِئة أو نحو ذلك من قتلى الأقدام السوداء. ومن ناحية أخرى، فإن مقتل أكثر من 10 آلاف مدني جزائري، على نحوٍ مُمَنْهَج على يد الجيش والشرطة ومليشيات الأقدام السوداء، يُشار إليه بكلمة محتشِمَة ومخفِّفة لهول ما حدث: «القمع». يُستخلَص مِنْ هذه السطور أنَّه عندما يَقْتُلُ الأوروبيون الجزائريين بالآلاف، فإن الأمر يتعلق بالقوة؛ وعندما يكون العكس، وعلى نطاق أصغر بكثير، يتعلق الأمر بِالعنف.
سيواصل كامو المسارَ نفسَه في تبرير الكولونياليَّة ووجهها الإباديِّ في مقالته في جريدة Combat بتاريخ 23 أيار 1945، تحت عنوان «إنّ العدالة هي التي ستنقذ الجزائر من الكراهية»، بدعوة صريحة العبارة إلى زيادة تكثيف الاستيطان: «لذلك نحن بحاجة إلى رجال جدد. وفي الوقت الذي يبحث فيه العديد من الشباب الفرنسي عن وسيلة وسبب للعيش، ربما نجد بضعة آلاف منهم يدركون أن الأرضَ تنتظرهم، حيث يمكنهم خدمة الإنسان ووطنهم». وفي المقال نفسه، سيصف مشروع استقلال الشعب الجزائري على أنه «مجرَّد صيغة عاطفية بحتة».
بعد عام ونصف العام، وقَّع كامو على سلسلة من المقالات بعنوان «لا ضحايا ولا جلادين»، يشير فيها إلى المستعمِرين والمستعمَرين على قدم المساواة، في خضم الموجة العالمية المناهِضة للاستعمار؛ وسيكون هذا آخر مظهر للحياد المتحايِل لدى كامو. لكنَّ ردَّ فعلِه في سِرِّه، بعد الهزيمة الفرنسية في الهند الصينية في معركة «دْيَانْ بْيَانْ فُو»، يكشف علو نحوٍ جليٍّ عن الجانب الذي يتعاطف معه. بالفعل، في اليوم التالي للهزيمة المدوِّيَّة للجيش الفرنسي أمام القوات الفيتناميَّة، في 8 أيار 1954، يُقارن في مذكِّراتِه، الفيتناميِّين الذين حرَّرُوا بلادهم بالنازيِّين الألمان لدى غزوهم فرنسا: «سقوط ديان بيان فو. كما هي الحال في عام 1940، شعور متقاسَم بالخجل والغضب. وغداة المجزرة، كانت النتائج واضحة. لقد وضع سياسيون يمينيون [الحكومة الفرنسية] أشخاصاً بائسين [الجيش الفرنسي] في موقف لا يمكن الدفاع عنه، وفي الوقت نفسه أطلق يساريون [القوات الفيتناميَّة في القيادة العسكريَّة للجنرال جياپ والقيادة السياسيَّة لهوشي منه] النَّار عليهم من الخلف».
أدى هذا اللعب المزدوج على الحبال بين تصريحاته المُعْلَنَة وآرائه الشخصية إلى قطيعة بينه وبين صديقه الشاعر جان سيناك، الّذي كان من الأقدام السوداء ومن أصول فقيرة مثله، مع فَرْقِ أنَّ سيناك أصبح مناصراً لقضية استقلال الجزائر. سيفقد سيناك صبره تدريجاً مع ادعاءات كامو ولعبه المزدوج، وسيكتب له ضِمْنَ رسالة مؤرَّخة في كانون الأول (ديسمبر) 1957، بلا موارَبة: «ألاحظ باستمرار هذا التأرجح المأساوي، وهذه التناقضات، وسوء الفهم هذا، وهذا الالتباس في الكلمات، التي هي في الوقت نفسه نابعةٌ من رجل نزيه وماكِرٍ يعزف على أسلوبيات غير دقيقة كي تتناهى إلينا النَّغمات».
وفي اليوم التالي لنشر هذا النقد الحادِّ اللَّهجةِ، قرر كامو التزام الصمت في ما يتعلق بالجزائر. ولكن، مقيَّداً بالأحداث الجارية، صار ناطقاً بلسان تسوية سياسية أخرى: مشروع مفصَّل لتقاسم السلطة بين الأقدام السوداء والجزائريين، إذ تحتفظ فرنسا بكل امتيازاتها السيادية، مِنْ قضاء واقتصاد وجيش. مشروع يشبه إلى حد كبير ما أصبحت عليه المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا (Françafrique). وكآخر ورقة تين ستكشف عريّه السياسي، سيُعرب كامو علناً عن دعمه لأطروحات مارك لوريول، وهو مستوطِن متطرّف من الأقدام السوداء بقي دوماً مدافعاً عن سياسة بقاء الجزائر ملحَقة بفرنسا.

في عام 1958، كتب كامو: «علينا أن نعتبر المطالبة بالاستقلال الوطني الجزائري، جزئياً، مظهراً من مظاهر الإمبريالية العربية الجديدة»

في منتصف حرب استقلال الجزائر، عام 1958، عبَّر كامو عن موقفه الأوضح كمناصر للكولونياليَّة، وبحجج سفسطائيَّة تتلاعب بالمصطلحات السياسيَّة لليسار التَّحرُّري وبنفس تعابير الرُّوسوفوبيا المهيمنة حالياً في الغرب: «علينا أن نعتبر المطالبة بالاستقلال الوطني الجزائري، جزئياً، مظهراً من مظاهر هذه الإمبريالية العربية الجديدة، إذ تَتَفَاخَرُ مصر بقواتها، وتدّعي أنها تأخذ زمام المبادرة، وهو مظهر تستخدمه روسيا أيضاً في الوقت الحالي لأغراض استراتيجية مناهضة للغرب. وعدم واقعيَة هذا الادعاء لا يمنع، على العكس من ذلك، من استخدامه كإستراتيجية». نستخلص من هذا الكشف عن المتواري خلف خطاب كامو السياسي الملتبس أحياناً، المفضوح أحياناً أخرى، أن الجزائريين تجاوزوا «حدود حقوقهم» عبر الكفاح المسلَّح من أجل الحصول على استقلالهم الكامل.
هذه الرؤية السياسية المؤيدة للكولونياليَّة، سنحاول الآن، بعد استقرائنا لها عبر المقالات السياسيَّة، الكشفَ عنها عبر الأعمال الأدبيَّة التخييليَّة لكامو، مسترشدين بقراءة إدوارد سعيد التي خلصت إلى أنَّ «أسلوب كامو المتقشِّفُ ووصفه الرَّصين لِلمواقف الاجتماعية يُخفِيان تناقضاتٍ شديدةَ التَّعقيدِ، تُصبِح غيرَ قابلةٍ للحلِّ إذا جعلنا — مثل الكثير من نقَّادِه — مِنْ ولائِه للجزائر الفرنسية أمثولةً للشَّرطِ الإنسانِيِّ»، معزِّزين لتحليلنا بنص لكاتب ياسين، يُخْضِعُ فيه أدب كامو لآلياتِ تحليلِ الخِطابِ الروائيِّ والأسلوبيَّةِ وتداخلِ الأيديولوجيِّ والأدبيِّ.
استهوت كثيرين، في حينهِ، قيم الوجوديَّة الفرنسيَّة الَّتي روَّجت لها رواية «الغريب» مثل مهاجمة الأخلاق الكاثوليكية والبورجوازية، متجاهلةً ما خلفَ السطور من دعم وولاء للفاعلين في الواقع الاستعماري للجزائر. هذه العقيدة الاستعمارية تجعل المستعمَر شخصاً غريباً عن القيم الإنسانية دون باقي البشر. عند قراءة الرواية، يتأكَّد هذا الازدراء الذي يكنّه المستوطِنون الفرنسيون للعرب، عبر ابتعاد المؤلف عن جميع الشخصيات العربية، ولكن أيضاً عبر تصرفات الراوي وتصرف شخصيَّة مورسو ضد الجزائريين في مناسبات عدة.
الشخصيات المجهولة ينعتُها كامو برمَّتِها بـ «العرب»، وهي محصورة في مواقعها كتابعة للسَّيِّد، إذ يبدو كل شيء في «الغريب» إنكاراً في الواقع لمكانة الجزائريين كبشر؛ أولاً، بإنكار الهوية الجزائريَّة (في جميع مقاطِع الرواية، لا تتم الإشارة إلى العرب إلا عبر عِرْقِهِم)؛ ثانياً، بعدم تمييز أيّ فردٍ بِاسمٍ أو ملامِح خاصَّة، ما يجعل كل الشخصيات الجزائريَّة في الرواية مجرَّد زوائد مُشَيَّأَة؛ وحتَّى الصِّفات الجسدية، عندما تتوافر، غالباً ما تكون تعبيراً عن ازدراء (الممرضة العربية في بداية الرواية تعاني من تقرُّحات). لكن السِّمة الأبرز، هي أنَّ الشخصيات الجزائريَّة من دون فم، محرومة من الكلام، لأنّ لا وجود لعربي يتمتع بمَلَكَة «ناطقة»، باستثناء فتاة صغيرة حاول سَنْتِيسْ Sintès (وهو الاسم العائلي لأمّ كامو) دفعها لممارسة الدعارة. وما يزيد إخراسَ الصوت العربي في الرواية، ألَّا أحد يستمع إلى هذه الفتاة، صوتها صرخةٌ في بريَّة مستوطني الجزائر.
وإذا كان العربيُّ مسلوباً مِنْ كلِّ اسم أو صفة جسمانيَّة أو تعبير لغوي في رواية كامو الأولى (1945)، فإنَّه غائب في المطلق في روايته الثَّانية «الطاعون» (1947). في واقع الأمر، لم يكن كامو، بأي حال من الأحوال، مناهضاً للاستعمار، بل كان مدافعاً ماكراً عن التسوية السياسية المجحفة بحقِّ الجزائريين، عبر الدفاع عن بقاء الوجود الفرنسي في الجزائر. لقد فهمَ أن عناد الأقدام السوداء يهدّد بتسريع الاستقلال؛ ولم يتجاوز طموحه إصلاحَ النظام الكولونيالي. فلماذا صار كامو مناهضاً للاستعمار في الأدبيات الغربيَّة والدراسات الأكاديميَّة الموازية لها؟ عبر الرؤية الرومانسية لكامو، كمستعمِر وكمدَّعٍ لمناهضَة الاستعمار في الوقت نفسه، تُطرح صورة فرنسا المستعمِرة والمُحِبة للعدالة وصاحبة الرسالة الحضاريَّة على حد سواء. عبر إضفاء طابَع مثالي على كامو، يتم تحويل تاريخ فرنسا إلى أسطورة تحررية.
بين تحرُّر الجزائر والاستقلال الشَّكلي المقَنَّع للجزائر الفرنسية، اختار كامو في الواقع أن يكون كولونيالياً. وسقط القناع نهائياً عنه عندما قال لكيلليو، محقِّق مجلَّدي أعماله الكاملة، في أيلول (سبتمبر) 1959: «إذا استقلَّت الجزائر، فسوف أغادر فرنسا. سأذهب إلى كندا».
سيد ألبير كامو، كندا ليست أقلَّ سوءاً من فرنسا، هما معاً، ضمن مجموعة القوى السَّبع الأغنى في العالم، مُذَّرِعين بالحلف الأطلسي يخوضون مع ربيبتهم «إسرائيل» حربَ إبادة ضدَّ زُقاقٍ في المشرق العربي محاصَر كليّاً منذ 17 سنة.

* المصادر
Albert Camus: Théâtre‚ récits et nouvelles‚ Bibliothèque de la Pléiade‚ Gallimard‚ Paris‚ 1962.
Albert Camus: Essais‚ Bibliothèque de la Pléiade‚ Gallimard‚ Paris‚ 1965.
Edward Saïd: Culture et impérialisme‚Fayard‚ Paris‚ 2000.
Olivier Gloag: Oublier Camus‚ La fabrique‚ Paris‚ 2023.


كاتب ياسين: الشعب غير موجود في رواياته
الأدبُ الجزائريّ (1) قبل الاستقلال وحتى اليومَ، هناك من يدَّعي أنه يتمثَّلُ في ألبير كامو. صحيح أنّ ألبير كامو كان ـــ لِأَمَدٍ طويل ـــ يمثِّلُ ما كان يُسمَّى «مدرسة الجزائر». وكان رجلاً مِنَ اليسارِ. ببساطة، الفرنسيون الذين يعرفون كامو، سيعرفونه ربما بشكل أفضل، ويفهمونه بشكل أفضل، إذا قارنوه بكاتبٍ آخر وَجَدَ نفسَه في الوضعِ نفسِه: كاتب أميركيّ، كاتب عظيم، حائز جائزة نوبل، مثل كامو. إنه ويليام فوكنر. هكذا إذن، لدينا ها هنا كاتبان وُلِدَا في ظروف متشابهة تقريباً، بل يمكننا القول إن كامو كان من أصول أكثر تواضعاً. أخيراً، ففوكنر كان ابناً لمستوطنَيْنِ في جنوب الولايات المتحدة. لقد كان في الموقف نفسه تقريباً، في نفس الوضع الخاطئ. وهذا يعني أنه عاش بين الجزائريين، وعاش فوكنر بين السود في جنوب الولايات المتحدة.
الفارق الكبير هو أن فوكنر كان يتحدث بِلغة السود، بِحيثُ يستخدم اللغة المحكيَّة الخاصة بالسود في الولايات المتحدة في كتبه، فقد كان يعرفهم حقَّ معرفة، مع أنَّه ظلَّ عنصرياً، وكانت كتابتُه مترَعة بإيحاءات عنصرية. لكن في كتبه، كان يتجادل مع هؤلاء الزنوج، مع هؤلاء السود، حاول أن يفهمهم، وكان يفهمهم في كثير من الأحيان. وهذا لم يمنعه من كرههم.
وعلى العكس من ذلك، كان كامو، من ناحية، مناصراً لنا، ولكن ليس من أجل الاستقلال، وإنَّما في آخر المطاف من أجل السكان الأصليين، من أجل تعامُل أقل وحشية وأقل عنصرية معهم. لكنه كان، في الأساس، موقفاً أخلاقيّاً، أخلاقياً فقط؛ لأننا، في أعمال كامو، يمكننا أن نرى بسهولة، أجمل صفحات كامو — ما هي؟ — إنها تِيبَازَةِ، إنها الشاطئ، إنها المناظر الطبيعية. الجزائر جميلة! لكن لا وجودَ لِشعبٍ، لا نرى الشَّعبَ الجزائريَّ. في كتب كامو، الشعب الجزائري غير موجود عمليّاً.
سيكون أمراً كاشفاً جدّاً، إذا أخذت كتابين: أحدهما لكامو والآخر لفوكنر. يمكننا أن نأخذ مثلاً روايتي «الغريب» لكامو و«ضوء في أغسطس» لفوكنر، اللَّتَيْنِ يمكن إقامة مقارنة بينهما هنا بصورة جيدة. في «الغريب»، الشخصية الجزائرية الوحيدة — على ما أعتقد، اسمها سعيد (2) — بالكاد موجودة، بالكاد نراها، لا أعرف حتى إذا كان الكاتب قد تركها تتفوَّه بِبِضع كلمات، وفجأة يموت بسبب ضربة شمس. لم يعد لسعيد وجود، لم يعد ثمة وجودٌ لِجزائريٍّ؛ وكل ما تبقَّى، هوَ الجزائرُ الفرنسيَّةُ، لا الجزائرُ. من ناحية أخرى، في «ضوء في أغسطس»، يرسم فوكنر صورة الزنجي القاتل، الذي يتطوَّرُ دراميّاً وسطَ المجموعة نفسِها، يتصارع فوكنر مع هذا الزنجي في كتابه، لكن هذا الزنجي يهيمن على الكتاب، وهنا نشعر حقاً بصنعة الكاتبِ، كاتبٍ عظيمٍ، لأنه كان يعرف جيِّداً عَمّا كان يتحدث.
سوء الفهم الكبير هو أنه هنا، في الجزائر على وجه التحديد، كان الأمر مستحيلاً، وخصوصاً بالنسبة إلى الكتاب — ربما هناك استثناءات — ولكن بشكل عام، فهو يعتمد قبل أي شيء على وهم، وسوء فهم، ووضع زائف، فكامو كان يعيش بين الأوروبيين، لم يكن لديه أي انفتاح. بل أود أن أقول — يمكن لنا حتى أن نتَّهمه هنا، لكن يجب ألا نقع في موقف أخلاقي آخر أيضاً — في الواقع، لم يكن لديه أدنى فضول تجاه حياة هذا الشعب، ولا حتَّى تجاه لغته. لقد كانت رؤيته للشعب الجزائري رؤية مختزَلة للغاية وبعيدة جداً عن الواقع، وبالتالي فهي رؤية تقلِّل من عمله. لكننا رأينا ذلك، رأيناه بفضول شديد في الحرب الجزائرية، أثناءها، كان لديه موقف أخلاقي شجاع إلى حد ما، منذ أن رمته الأقدام السوداء بالطماطم، حتى أنهم أرادوا تصفيته.
هذا صحيح، لكن من ناحية أخرى، في لحظة معينة، عندما فاز بجائزة نوبل، كانت لديه كلمة فاضحة، وفي لحظة معينة، بعد منحه الجائزة مباشرة، كان هناك مؤتمر، وكان هناك صحافيون، طرحوا عليه سؤالاً، لأن والدته كانت لا تزال هنا، كانت والدته لا تزال في الجزائر أثناء الحرب، وانتهى الأمر به أن قال: «أنا، إذا كان علي الاختيار بين الجزائر وأمي، سأختار أمي». وفي تلك اللحظة، في القاعة، كان هناك شخص اسمه سعيد، مثل الشخصية التي قتلها في روايته، إنه أمر غريب للغاية. إنه عامل جزائري كان يعمل هناك في السويد، وجد نفسه بين الجمهور، فقال له: «أنا، لن أفرِّق بين الجزائر وأمي». وهذا يعني أنه عندما يشعر المرء بأنه جزائري، فإنه لن تخطر في باله فكرة أن يفكَّ رابِطَ والدته في الجزائر.
هكذا هو الأمر، هنا تكمن الفجيعةُ. ولهذا السبب، من الضروري، ولا يزال من الضروري، أن يفهم الفرنسيون مرة واحدة وإلى الأبد أنّ الأدب ليس كامو؛ والجزائر ليست فرنسية. وبالتالي، فإن الأدب وسيلةٌ جيدة للفهم.

(1) المادة ترجمة لتفريغ مادة سمعيَّة-بصريَّة متوافرة على يوتيوب يعود تاريخها إلى عام 1957
(2) هنا، تخون الذّاكرة كاتب ياسين؛ يشير إدوارد سعيد في «الثقافة والإمبريالية» إلى أنه على الرغم من تفسير رواية «الغريب» في كثير من الأحيان على أنها نوع من الاستعارة المجرَّدة للحالة الإنسانية، إلا أنها رواية متجذِّرة بعمق في سياقها التاريخي، أي الجزائر الكولونيالية التي عاش ونما فيها ألبير كامو. يضيف سعيد أنَّ «الشخصيات العربية لا تَتِمُّ تسميتُها أبداً، وتُشَكِّل خلفية سلبيَّة لِحياة الشخصيات الأوروبية التي تملك أسماء وهويات. كما هي الحال في النظام الاستعماري، يحتل العرب موقع التبعية».