مَن منّا لم يشاهد مرّةً شيئاً من الأجواء الاحتفالية اللاتينية؟! لعلّ ألطفها لعبة Piñata، وهي مجسّمٌ خزفيٌّ أو قماشيٌّ أو ورقي زاهي الألوان، ينهال عليه المحتفلون ضرباً حتى يتهشّم، فيخرج منه محتواه من السكاكر والحلويات. يصحّ منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، إسقاط تشبيه لعبة Piñata -مع شيءٍ من التعديل- على صورة بعض النُّخب والشخصيات العامة في أذهان كثيرين ممن ينساقون ــ عن قلّة فراسةٍ أو طيب نيّة ــــ وراء سحر هذه الشخصيات وبريقها، شكلاً أو معرفةً أو نتاجاً أو فكراً أو حتى كاريزما. لكنّ الأمر لا يتطلب سوى «خضّة ميكانيكية»، بسيطة أو صدميّة، حتى يتهشم المجسم، لا لتخرج منه السكاكر والحلويات أمام عيونٍ شاخصةٍ مستمتعةٍ بالحدث، بل وسط حالةٍ من الصدمة أمام تحوّل ما كان قبل لحظاتٍ بُنيةً متماسكةً براقةً جذابةً، إلى هشيمٍ أو مسحوق، سُكّريّ بتكوينه ربما، لكن لن يعود ذلك مهماً لِمن اختبر هذا المشهد والشعور المترافق معه البتة.
أسقط أمين معلوف المسألة الفلسطينية واعتبر ما يحدث في غزة انعكاساً للتوازنات الدولية الجديدة

في هذا السياق، لم يكن استثناءً في عيون بعضهم ما تفوّه به أمين معلوف، الكاتب والأديب اللبناني الفرنسي المرموق الذي نال أخيراً منصب الأمين العام الدائم للأكاديمية الفرنسية، أو وجدي معوّض، الكاتب المسرحي اللبناني الكندي ومدير مسرح «لاكولين» الوطني في باريس. لسنا هنا في صدد نبش دفاتر الماضي وإعادة تناول مواقف أو آراء، أو حتى أفعال نافرة لأيٍّ من المذكورَين في ما يخص ما يُسمى في البيئة الحاضنة لهما بـ «الصراع الفلسطيني الإسرائيلي»، إذ سنجد لكلٍّ منهما ما يكفي لتنهار صورتهما في عينيّ من لا يزال يُكنّ لمسيرتيهما ونتاجهما شيئاً من الاحترام. يكفي النظر إلى الموقف المُعلن لكلٍّ منهما حيال ما تشهده فلسطين وأبناؤها منذ السابع من أكتوبر لتغدو صورتهما هشيماً تذروه نسمةٌ عابرة.
أما وجدي معوّض، فيشرح موقفه بقلمه في مقال نُشر في صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية (بتاريخ 9 تشرين الثاني/ نوفمبر). وكما أن مسرحياته تسبر عميقاً الصندوق الأسود لذاكرة الطفولة البعيدة، وأثرها على لاوعي الإنسان وأفعاله بالغاً، من دون أن تغيب الحرب الأهلية اللبنانية عن أيٍّ من أعماله، مباشرةً أو مواربة، ولا ذكر مجزرة مخيم صبرا وشاتيلا عام 1982 الذي كان حدثاً مفصلياً طبع وعيه يافعاً، كذلك يغوص معوّض في مقاله في خبايا علم النفس، وأثر ما يزرعه الأهل باكراً في لاوعي أطفالهم على مسيرتهم ومآل شخصياتهم. بالرغم من كل «الحب والسلام والتفاني» الذي ناله من والديه، يُقرّ معوّض أنهما أفاضا عليه أيضاً بما وصفه «بذرة شعور الكراهية»، إذ كبر كارهاً كلّ من هم ليسوا من أبناء جلدته. هي بذرةٌ لنبتةٍ لا تفنى، تكبر مع الإنسان ولا تُبارحه، بل يتم توارثها من جيلٍ إلى جيل. يُرجع معوّض هذا الشعور لدى أهله ومن سبقهم من أجيال، إلى أثر خمسة قرونٍ من الاحتلال العثمانيّ للمنطقة، ما جعل كل ديانةٍ وكل طائفة فيها شديدة الانغلاق على نفسها.
تبدأ الكراهية بذرةً مُقحمة، وفق تحليل معوّض، بيد أنها تغزو مع الوقت لاوعي صاحبها، حتى تغدو إحدى البديهيات التي تتبلور حولها شخصيته وكينونته ومحاكمته العقلية، ولا يعود هناك من مجالٍ للتشكيك بخلفيتها ومشروعيتها ودوافع وآثار الأفعال الناجمة عنها، بل تغدو مصدراً للذّة التي يبحث عنها على الدوام، ويصبح في مستودع شعوره ضحيةً لها. معوّض بارعٌ في التشبيهات الصورية، إذ شبّه تنامي شعور الكراهية بشخصٍ يحمل حقيبة ظهرٍ فارغة. هو لن يشعر بثقلٍ إن قام أحدهم بإسقاط حجرٍ وراء حجرٍ فيها، إلى أن تحين لحظةٌ مفصليةٌ ينوء فيها بثقل حمله. تطلبت هذه اللحظة لدى معوض حرباً وهجرةً وتمرساً بلغةٍ وفنٍّ، ودعماً وحباً وأسفاراً وخسارات.
وفي حين لا ينكر معوّض جهارةً أنه نشأ على كره الفلسطينيين، بل شعر يوماً برضى أمام ما حلّ بفلسطينيي مخيم صبرا وشاتيلا، فكان برأيه قصاصاً عادلاً أمام اغتيال بشير الجميّل، إلا أنه لم يُترجم لحظة اليقظة واستفاقة الوعي تعاطفاً واصطفافاً مع الضحية، بل كانت، للأسف، مع الجلاد، إذ يرى في «مليشيات حماس» رمزاً لـ «قوى الظلام المجنون» التي، فضلاً عن «فظائع أعمالها من خطفٍ وتدميرٍ يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنه»، فإنها «تغذي نبتة الكراهية تجاه السامية» على نحوٍ سيغدو معه مقبل الأيام «خوفاً ورعباً ونفياً وشتاتاً، بل مقبرةً، لكلّ يهودي».
أما أمين معلوف، فقد ظهر في مقابلةٍ على قناة «فرانس 24» بالعربية، عُرضت يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، وتمحورت حول كتابه الأخير «متاهة الضائعين – الغرب وخصومه». استهلّها محاوره وسيم الأحمر بالتعريف عن الكتاب بأنه تحليلُ جذور عودة الحرب إلى أوروبا مع الحرب الأوكرانية، لكنه تزامن أيضاً مع «حربٍ أخرى في الشرق الأوسط». من هذه الجملة بالتحديد، يُقرأ مسار المقابلة ذات الدقائق الثماني عشرة، التي لم تتطرق لهذه «الحرب الأخرى» إلا عَرَضاً ما لم يتجاوز مجموعه ثلاث دقائق، كان فيها معلوف أشد نأياً بنفسه وبأصوله من أكثر الديبلوماسيين تمرساً في إخفاء ما يخالجهم من انطباعات أو مواقف أو مشاعر -لا سمح الله- أمام هول ما يعيشه الفلسطينيون منذ ما ناهز الأربعين يوماً، ما يجعل المشاهد يتساءل عن وجود أيّ مشاعر على الإطلاق. وكان جلّ ما اقترب به معلوف بنفسه ما يحصل استعماله كلمة «منطقتنا» للدلالة عن الشرق الأوسط.

اعتبر وجدي معوض «ميليشيات حماس» رمزاً لـ «قوى الظلام المجنون»

يرى معلوف أنّ ما يحدث في غزة هو انعكاسٌ للتوازنات الدولية الجديدة، والمواجهة بين الغرب من جهة وبين روسيا وإيران من جهةٍ أخرى، من دون أن يفوته أنّ أساس هذه «المواجهة» هو المسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي الذي بدأ قبل الحروب الباردة بين أقطاب العالم، ومستمرٌّ وله منطقه الخاص الذي لا يخضع للتوازنات الدولية فقط. اعترف معلوف بخيبته، إذ كان أحد أحلام شبابه أن «يسير الشرق الأوسط في الطريق التي سارت بها أوروبا» عقب الحرب العالمية الثانية، أي أن يتخطى المتخاصمون صراعاتهم كفرنسا وألمانيا وينهضوا بأنفسهم سويةً. لم يتّجه الشرق الأوسط ـــ بحسب معلوف ــ لأي حل، بل باتت مشكلاته تطال العالم بوسعه بما فيه أوروبا.
لا يصحّ في حالة أمين معلوف توصيف اختزاله لما يحدث، بمحاولة التسطيح الناجم عن قلة الدراية أو خيانة الكلمات، فهو بشهادة الخصم قبل الصديق أبعد عن ذلك بأميال. لا تنقص أمثال معلوف طلاقة اللسان ولا سعة المعجم ولا فن اختيار الكلمات ولا مهارة تطويعها، وإن سلمنا جدلاً بما يقتضيه منصبه من ديبلوماسيةٍ في إدلاء التصاريح (تسقط كل المناصب أمام الجرائم بحق الإنسانية). إن كلّ هذا وأكثر سيفٌ ذو حدّين في حالة أمين معلوف، بل يغدو السيفُ قاطعاً في غمده إن لم يُستخدم حين تدعو الحاجة. اختتم المُحاور المقابلة مع معلوف باقتباسٍ من كتابه: «لم يفُت الوقت للخروج من المتاهة. لدينا الإمكانات للخروج من المتاهة، لكن يجب الإقرار بأننا ضائعون». نعم، إنّ بعض النُّخب ضائع بالفعل! بل اختار أن يكون ضائعاً بقرارٍ واعٍ، بالرغم من أنّ الدرب واضحٌ لا لبس فيه.
لا يصحّ في حالة أمين معلوف توصيف اختزاله لما يحدث، بمحاولة التسطيح الناجم عن قلة الدراية أو خيانة الكلمات


امتلك وجدي معوض من الجرأة ما يكفي للاعتراف بوجود نبتة الكراهية السامّة راسخةً متشعّبةً في كينونته، وهذا أمرٌ جيّدٌ بحدّ ذاته ويُحسب له. كما امتلك من الوعي ما مكّنه من تحديد «مستنقع السموم» بحسب وصفه، الذي تستمد منه هذه النبتة ماءها وغذاءها، ولعل هذا أمرٌ أجْوَد. ووسط حالة «العجز التام» التي يشعر بها أمام كل ما يحصل، خلُص معوّض إلى أنّه ينبغي أن يبدأ بنفسه، أن يؤثر على نفسه، أن يطرح على نفسه جملةً من الأسئلة الوجودية من زمرة: من أنا؟ وكيف تؤثر عليّ الأحداث الأخيرة؟ هو مدركٌ أنّ التغيير الجذري بات واجباً على الجميع، وأن التغيير الفعلي لن يكون ثمرة فعلٍ فردي، بل هو أثرٌ جمعيٌّ تراكمي للأجوبة على كل هذه الأسئلة وما ستترجم إليه من أفعال.
حضرة المسرحي وجدي معوض... تحليلاتك سليمةٌ بمعظمها، أما ترجمة تحليلاتك، فتعاني من التيه الذي يمكن أن يُعزى ـــ ولا يُبَرّر ــــ لامتيازاتٍ تخشى، أنت وغيرك، خسارتَها في وسطٍ يتجه نحو تجريم معاداة الصهيونية، لا السامية فقط. أن تبدؤوا بأنفسكم أولاً خطوةٌ ليست بسيئةٍ البتّة، لكنّ ذلك يتطلب إعادة ضبط بوصلتكم، أو استبدالها كلياً بأخرى لم يطلها بعدُ أيُّ مجالٍ مغناطيسيٍّ يحرف إبرتها. الحقُّ بيّن والباطل بيّن. لستم مضطرين أن تكونوا محنكين في السياسة، ولا أن تمتلكوا درايةً أو معرفةً أو مهاراتٍ تحليليةً متقدمة، ولا ينقصكم بالمناسبة أيٌّ من ذلك، لتقفوا مع الحق، مع الضحية والمظلوم، دونما محاولةٍ منكم، علانيةٍ أو ضمنيّة، لإيجاد مبرراتٍ للظالم، أو مراعاة مشاعر المجرم. ضعوا أنفسكم أو أيّاً من أعزائكم للحظةٍ -ولن تكونوا- مكان ضحايا مجازر الاحتلال الإسرائيليّ في مستشفيات ومدارس قطاع غزة، وأرونا إن كانت لتتغير مقارباتكم للأمور وما تفيضون علينا به من عِظات!