لا يمكن اختزال تضحية الطواقم الطبية في غزّة منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الحالي بشخص واحد، إذ يُشهد لها صمودها الذي قلّ ــ إن لم نقل انعدم ــ نظيره في التاريخ المعاصر للحروب والكوارث. كيف لا، وهم يحملون أرواحهم ودماءهم على أكُفّهم بينما يحملون الجرحى والشهداء والبقايا المبتورة والأشلاء؟ هؤلاء يعيشون وسط حصارٍ لم يُعرف له مثيل، ونفادٍ تدريجي لأبسط أدواتهم من مواد تخديرٍ ومعقمات، بينما تنهال الصواريخ والغارات من فوقهم، ويتهافت ذووهم وأصدقاؤهم وأبناء حيّهم وشركاؤهم بالمعاناة من يمينهم وشمالهم جرحى أو شهداء. بيد أنّ الدكتور غسان أبو ستّة برز منذ اليوم الأوّل للكارثة، سفيراً فوق العادة لكل زملائه في الطواقم الطبية، وناطقاً باسم مرضاه من الجرحى وعوائلهم التي تأبى الاختفاء من السجلات المدنيّة من دون أن تسقي أرضها رشفةً أخيرةً من دمها. أبو ستّة، لمَنْ لم يسمع باسمه من قبل، أو لم يسمع به سوى أخيراً، جرّاح تجميل وترميم فلسطيني ــ بريطاني، لن تكفي هذه السطور لسرد سيرته الذاتية والأكاديمية والمهنية، لكن يمكن اختزالها بالقول إنّه نذر نفسه على مدى السنوات لطب النزاعات والحروب في زمنٍ استحال فيه اختصاص الجراحة التجميلية دجاجة تبيض ذهباً، بل تكاد تكون الأسرع على الإطلاق في ذلك، لغالبية ممتهنيها ممن سخّروها لمآرب تجارية بحت بينما هم ينعمون بنمط حياةٍ هو صنو لهدأة المنوال وراحة البال والمكانة المرموقة في المجتمعات المخملية.
بيد أنّ الدكتور غسان لم يأل جهداً ليكون حاضراً في الميدان في أيٍّ مما شهدته المنطقة من حروب وكوارث على مدى العقود الماضية، تاركاً وراء ظهره حياته في بريطانيا التي تعلم في جامعاتها وتدرب في مستشفياتها، وهو اليوم يعلّم ويحاضر ويدرب فيها، وتاركاً أيضاً أسرته التي تعرّضت أخيراً لمضايقات واستجواب من قبل الشرطة البريطانية بخصوص وجوده حالياً في غزة، والذي إن لم يكن يمليه عليه ضميره المهني وإنسانيته، فستمليه عليه روابط الأرض والدم والقضية.
رغم هول ما عاشه أبو ستّة منذ قرابة أسبوعين وما زال يكابده كل لحظةٍ كشاهدٍ على مجازر الاحتلال في قطاع غزة ــ وقد يحاجج أحدهم أنه مدربٌ على ذلك ــ فقد أجاد تسخير ما تيسّر له من أدوات تواصل هذا العصر، بالرغم مما يمارسه الاحتلال من قطعٍ للكهرباء والإنترنت وغيرهما من شبكات الاتصال، لإيصال واقع الحال، لا بصور وفيديوات للمآس مما لا يقوى على حملها أعتى الرجال، ولا برسائل عاطفية موجهة إلى الناطقين بالعربية من أبناء الشعوب ذوي المشاعر الجياشة، بل إلى العالم برمته بلغة إنكليزية متقنة غير عصية على الفهم من قبل غير الملمّين بالمصطلحات الطبية التخصصية وعبر تغريدات ومقابلات مقتضبة لم تشغله عن أداء واجبه المهني، وقد تمكّن فيها من إيصال أوضح الرسائل وأبلغها وأعمقها بجمل لا تتجاوز الكلمات المعدودة. الدكتور غسان جبهة قائمة بذاتها، ما زالت تقوى على الوقوف لأداء رسالتها الطبية والإعلامية والوطنية والإنسانية بين أكوام الأشلاء وجثامين الشهداء ممن ارتقوا عقب مجزرة «مستشفى الأهلي المعمداني» ليل 17 تشرين الأول المشؤوم، الذي سيحفظه التاريخ. جبهةٌ ستخبر شعوب العالم أجمع أنهم أمام شعب عصيّ على الكسر، مهما تكالب قادتهم عليه، وأن ما زال في هذا الزمن وعلى هذه الأرض، التي كانت تُسمّى فلسطين، وما زالت تُسمى فلسطين، ما يستحق التضحية بالدم والروح والحياة!
دكتور غسان... هزّتْنا في الصميم دموعك التي حاولت مغالبتها في مقابلة لك على شاشة «الميادين». ستبكي كثيراً بعد انكشاف هذه المحنة، ستبكي أنت وزملاؤك تفريغاً لأهوال ما عشتموه وشاهدتموه، وهو ما لا تقوى على حمله الجبال... فعسى أن يشوب بكاءكم حينها فرح بتحرير فلسطين، كلّ فلسطين...