يتعامل البعض مع نهج المقاطعة على أنه غطاء إعلامي أو اعتراف أمام رجل دين، لجنة أكاديمية، حزب أو استراتيجية شخصية، يراوحون بالكلام والأفعال من أجل منافع شخصية باهتة متناسين أننا نتحدث عن أجساد تُنتهك يومياً وجثث تتراكم وأراضٍ تجفّ وأشجار تُقطع وأجيال تناضل قبل مولدها. يمارسون عكس ما يعلنون، يتغافلون عن الأذية المرعبة التي يتسببون فيها لكل من انتهج المقاطعة والمقاومة الحقيقية، ويبقى السؤال: إن كانت اختيارات هؤلاء الحياتية وإيمانهم لا تتطابق مع نهج المقاطعة والمقاومة، فما الذي يجعلهم يستمرون بالتغنّي بهما، وخصوصاً أنّنا لم نسمع قط بمناضل/ة مشهور/ة، بل يوصف النضال بالعنيد، الصلب، الشجاع والحر!
ما أعلنته آمال المثلوثي بعد الزيارة أقبح من أن يسمح لنا بالتجاهل

لا شك في أنّ الكارثة الفلسطينية أرض خصبة للبحث والدراسة والإبداع، إلا أنه باسم «الفن والفكر المتحرر»، يُعيد بعضهم اغتصابها مرات جديدة تحت مسميات «المقاومة» التي يتغنّون بها بسطحية متناهية. والأنكى من ذلك كله جهل هؤلاء بواقع فلسطين تاريخياً وحالياً، فهي لا تبحث عمّن يكفكف دموعها ويلطم في جنازاتها، ولا تستمع إلى الموسيقى العالمية أو حتى العربية وقت تشييع شهدائها أو نضالات أسراها أو في جهودها اليومية الحثيثة لمنع نزاعات أهلية أو حتى في البحث حرفياً ويومياً عن لقمة العيش.
متّفقون نحن، أن عظمة فكرة وتاريخ وحال فلسطين تجعلها حلماً للجميع. حلمٌ يخلط الخاص والعام، يدغدغ المشاعر والعقل والذاكرة ويزيد نبضات القلب ويخلق التحديات، ولكل منا، فلسطينياً كان أو عربياً أو أجنبياً، «فلسطينه» الصغيرة الخاصة، يتغنى بها ويتفنن في رسم علاقته بها، لكن يستحيل له أن يقرر بشأنها أو يحكمها، فهي أمّ الجميع المنتظِرة دوماً عودة بناتها وأبنائها، ولا يمكن لأحد أن ينافس أهل فلسطين المهجرين في حلم عودتهم كما لا يحقّ لأحد انتزاعه منهم أو إعادة تشكيله على سجيته. وبطبيعة الحال، لا يعوضهم عن حلمهم هذا ولوج آخرين إليه بدلاً منهم، ولو كانوا من الأحبة.
نعم، عاد إليها بعضهم، ويزورها آخرون بصفتهم الشخصية وأسبابهم محتالين على القوانين والحدود، متسللين بعيداً عن الكاميرات والإعلانات، حاملين نشوة انتصار شخصي خفي وقضاء حاجة استثنائية. يمرون من بوابات الاحتلال بصمت، لا يُلامون أو يُشهَّر بهم أو يُطالَبون بأي تفسير، حتى إنّنا ننفعل معهم ونفرح بهم خلسةً أحياناً كثيرة. أما الدخول المختال للشخصيات العامة التي تقرّر إعلان دخولها البراق، عبر حدود الكيان وتحت شعار دعم فلسطين والطبطبة على أهلها، فمن الغباء أن يتوقع أو يطلب منا إخفاء الشمس بغرباله العتيق أو سد آذاننا عن نوتاته النشاز.
آمال المثلوثي ليست استثناءً، ولا يأتي ذكرها هنا إلا لأنها كانت السبب في آخر خيبة ونقاش حامي الوطيس حول المقاطعة والتطبيع، لا يشفع لها حبها للشاعر محمود درويش أو عشقها لفكرة فلسطين التي تربت عليها ولا حتى نضالها من أجلها وحلمها بلقائها. ففي تواجدها في القدس ورام الله وحيفا، قطيعة مع ذاك الحلم الذي حققته بزيارتها وانتهى، كما انتهى أملنا بأن تبقى معنا جزءاً من السلسلة البشرية المقاومة والممتدة عالمياً (فكراً وكلمة وفعلاً من خلال الفن أو غيره لا فرق). وإن اردنا تجاهل الزيارة، فإن ما أعلنته الفنانة ورفاقها ما بعد الزيارة أقبح من أن يسمح لنا بالتجاهل.
اعتقدَت المثلوثي بعنجهية غير مبررة، كغيرها ممن سبقها وسيأتي، أن نبضها (وإن كان صادقاً) كافٍ لمقاومة الاحتلال وكسر شوكته بأساليب لم يفطن لها الفلسطينيون من قبل، مقتنعة أنّها بفنها تستطيع هزيمة الكيان ومنعه من استخدامها كدمية جديدة في إعلامه، متغافلة أيضاً عن الأثمان التي سيدفعها الفلسطينيون والعروبيّون لاحقاً وجاهلةً بأنها مهما نجحت واشتهرت ومهما بدلت من جوازات سفر، ستبقى تحتال على نفسها، تماماً كما تعتقد أنّها تحتال على قوانين الاحتلال وثوابت المقاطعة، وقد أضاعت البوصلة.
كغيرها ممّن مارسوا التطبيع مع الكيان سابقاً، لم تُقدِم المثلوثي على أي فعل «نضالي سياسي» على منصّات الأرض المحتلة (إلى جانب الفن)، أي فعل يعلّمنا منافع الاحتيال على قوانين الاحتلال ومغازلتها، أو يلمّح ولو قليلاً بأن لها هدفاً آخر من الزيارة غير تنفيس الحلم الشخصي والتواصل مع معجبيها... المعجبون الذين تابعوها وأحبوها قبل أن تزورهم في الأراضي المحتلة وقبل أن تخرق وعود النضال. والمصيبة أن أعذارها كانت أقبح من ذنبها، فذكرت في مقابلة إذاعية تونسية على قناة «موزاييك أف أم» أنها تعي أنّ «فلسطين كلها محتلة»، لكنّها غير نادمة على زيارتها التي تعتبرها نضالية، بل إنّها فخورة بما أنجزت، فتقول: «بتعرف شو معناتها شد العلم الفلسطيني فوق مسرح في رام الله؟؟ يعني حاجة صعيبة برشا»!! جاهلة أن أعلام فلسطين ترفرف رسمياً هناك، بموافقة الكيان، منذ اتفاق أوسلو 1994، وأنها لم تتوقف عن التلألؤ في سماء البلاد قط، منذ بدايات الاحتلال ورغماً عنه، في قطاع غزة والضفة الغربية وحيفا والناصرة وعرابة وشفاعمرو وباقي أراضي الـ 48 وفي كل مرة تهرع قوى الاحتلال لإنزال العلم واعتقال رافعيه وهكذا دواليك.
تتحدث المثلوثي في المقابلة ذاتها عن خيار المقاطعة كأحد الخيارات المستعملة والموجودة وتنفض عن نفسها الذنب بتبريرها بأنّها ليست وحيدة في هذا المسار/ الخيار وتطالب باحترام قرارها. كأن نضال فلسطين في عيون هكذا «مناضلات/ين» مدينة ملاهٍ يختار كل شخص اللعبة التي يود اللهو فيها. نعم لكل منا رأيه وإيمانه، لكن مردود الفعل هو على الجميع، فمن يتحمّل المسؤولية؟
أما بخصوص الرضى الذي أظهرته قيادة حركة المقاطعة في فلسطين عن الزيارة والذي «طمأن» الفنانة، فأذكر فقط بأنها حركة محلية محصورة في «أراضي الـ 67» ولا تنتهج الممارسة ذاتها في «أراضي الـ 48»، ما يؤكد بالممارسة على أنها أوسلوية النهج والإيمان وتختلف عن حركة المقاطعة العالمية الأصلية. لذا، فإن ورقة التوت هذه لا تكفي لإخفاء الشرخ بين تاريخ المثلوثي المناضل وفعلها الحالي. وكلّنا يعلم أنّ مواقفنا الحالية بإمكانها سحق الماضية، لكننا ما زلنا أحياء نرزق فلنعش ونرَ… أما بخصوص الاستشهاد برأي السيد جاك لانغ، مدير «معهد العالم العربي» في باريس، ورسالته الداعمة للفنانة والمُستَهجِنة لتصريحات ومواقف تونس، فهو أمر معيب، وخصوصاً أنّه هو الذي وَصف كل من عارض فعالياته الثقافية المُتصهينة في السنوات الأخيرة بـ «النعاج»، كما أدخل «إسرائيل» إلى خريطة العالم العربي في صرحه العظيم.
إن كانت المثلوثي من مناصري أوسلو، فهي حتماً لا تعلم أنه قد تم الحداد على أوسلو فلسطينياً، وإسرائيلياً وعالمياً منذ زمن! وإن كانت من منتجي الفن لأجل الفن، فمُقاومونا ومُقاوماتنا في فلسطين، يستنبطون النغم من بين الدموع سمفونيات تجعل منا -نحن وأنتم- بشراً في حالة حياة ومستقبل.
نحن في فلسطين نعشق الفن ونتعطش دوماً له وللمزيد منه ولا نستغني عنه، ومن الطبيعي جداً استقبال المثلوثي من قبل الجمهور الفلسطيني بالحفاوة والمحبة لأنّنا «نحبها» لكنّنا نحب فلسطين أكثر، ولا نظلم الفن أو نتركه وحيداً يعاني كذبة استطاعته التغيير منفرداً.
وكان من المتوقع من المثلوثي أن تكون أكثر إخلاصاً لقناعاتها السابقة وتاريخها المناضل، أن تستمر في قيادة الجمهور والخطاب العام من أجل التغيير بدل أن تُقاد من النرجسية أو من محبة الجمهور إلى فخ لم تحمد عقباه. لكنّ كثراً من يجهلون مسؤولياتهم كشخصيات عامة، يغرقون في «شبر من ماء بحيرة الشهرة»، وقد اعتادوا العناوين الرئيسية وتاهت عنهم التفاصيل، حيث يقبع الشيطان، فيخسرون ونخسر جمال ما كانوا عليه، ونتألم من خسارتنا هذه لأن طريقنا لا تزال طويلة ووعرة.
أصبح خطاب «أهل الفن والشهرة» لتبرير تواجدهم في فلسطين المحتلة بأنّهم يكسرون الحصار عن أهلها. عن أي حصار يتحدثون؟ عن كسر حصار غزة أو دخول نابلس أو جنين أو مواجهة شراسة وعنف المستوطنين القتلة؟ عن الحصار المادي والطبي؟ هل يجوبون البلدات الفقيرة والمخيمات والأهالي الذين لا يملكون ثمن بطاقة الباص للوصول إلى المسرح الوطني، حتى لو كان العرض مجانياً؟ لا يعقل أن يجهلوا تواصل أهالي فلسطين مع العالم عبر الإنترنت، حيث يتعرفون إلى إنتاجاتهم الفنية والثقافية، وأنّ نسبة من أهل فلسطين تجوب العالم، وأهمها تلك التي ترتاد المسارح والسينمات والمراكز الثقافية، وأن أهالي الداخل الفلسطيني الصامد (رغم كل شيء) يحملون جواز السفر الإسرائيلي قسراً لا اختياراً (وأنا منهم)، وأن تزايد تطبيع الدول العربية (الذي ترفضه الفنانة ورفاقها) يسمح لحاملي هذا الجواز بزيارة العالم وحتى الدول العربية المطبّعة!
هل ضاق بنا النضال المتوقع منا في أرجاء العالم إلى هذا الحد لكي يصبح بهذا الاختزال مقتصراً على التطبيع مع الكيان على حساب دماء أهل البلاد وتفريغ حلم التحرير؟
لم نحص قط عدد العروبيين عامة أو من أهل فلسطين في المهجر ممن يحملون جوازات السفر الأجنبية ويرفضون العودة المبتورة إلى بلادهم، يغذون إيمانهم باستمرار النضال، ويرفضون إعطاء الشرعية لكيان الاحتلال ولو على نطاق فردي صغير عابر وفانٍ. وفي هذا السياق تحديداً، أقول كم سيكون جميلاً حين تستقبل فلسطين فناني العالم أجمع يوماً ما وأيضاً في «فتوش» (وأنا من رواده) المكان الجميل الراقي الفلسطيني المختلف المنتِج والحاضن لكل إبداع لكن ليس الآن، بل يوم عودة أهالي حيفا المهجرين المشرّدين لكي نغني ونحتفل معهم وبعودتهم.
جهلت المثلوثي أنه خلال عروضها، كان الشاعر والباحث الكبير زكريا محمد على فراش المرض والموت، وكان الرصاص ينهال على متظاهري غزة، وأن جنين المستمرة في بطولاتها تقدم الشهداء وتقاوم خيانة أهل النفوذ والاحتلال، وأن أهالي الـ 48 يسقطون جثثاً يومياً برصاص الجريمة وتحت وصاية الاحتلال.
كغيرها ممّن مارسوا التطبيع، لم تُقدِم المثلوثي على أي فعل «نضالي سياسي» في الأرض المحتلة


لم أتواجد لأشهد شخصيّاً على زيارة الفنانة وعروضها في فلسطين، وبدل الموسيقى ملأت أذناي الأصوات الشجاعة الواضحة من أهل تونس ولبنان، وكانت لي الحضن الآمن الوحيد في هذا العبث. لذا، لم أعرف إن كان قد تم سحل أحدهم أو إحداهن في الشوارع أو أمام قاعة العرض أم أنّ أحداً لم يسمع الصراخ بفضل الموسيقى الطاغية في القاعة... أو إن كان هناك اقتحام لرام الله أو لأي منطقة «فلسطينية» من قبل للاحتلال أو أن الزيارة كانت محظوظة بيوم هادئ!
مؤلم جداً هذا الحال، ومؤلم أننا كلما خطَطنا رسالة إلى فنان/ة في محاولة منا أن نثنيه/ها عن عبور الحدود الإسرائيلية (المحيطة بفلسطين من كل منافذها من دون استثناء) رفقاً بأنفسهم/ن وبنا، لا نرفق نداءات الأسرى والأسيرات القابعين والقابعات في السجون يعانون التعفن الزاحف نحوهم ويقاومون، من دون التواصل مع فنانيهم الأحب، ولا نرفق صور برادات مليئة بالجثث الحديثة لشهدائنا أو لقبورهم (إن عادت جثثهم) ولا كلمات ذويهم وأحبابهم/ن، وقطعاً لا نرسل لهم قارورة زيت الزيتون من زيتوننا الشامخ ليتذوقوا طعم فلسطين واستنباط الأمل والصبر والاستمرار في طريق النضال والتحرير، لأننا نعتقد أنهم يعرفون، ولأننا حتماً لا نستعطف المساندة.
في انتهاج المقاطعة صبر هائل وقدرة مهيبة على احتمال الألم والاشتياق لا يعرفها إلا من أدرك فلسطين وصبر أهلها ومعاناتهم في لجوئهم، ورفضهم لتحقيق حلم مبتور يختفي مع الجيل اللاحق، لأن فلسطين هي التي تعلّمنا وتساندنا لا العكس.
كم أتمنى أن يأتي يوم لا نتأبط فيه ممارسات المشاهير والنجوم، فنجد أنفسنا في ضياع مع غياب لمعانهم.

* ممثلة ومخرجة فلسطينيّة