«أخجل من نفسي، حين أواجه نفسي في المرآة، وأسألُ شخصي الماثل أمامي: ماذا فعلتَ يا حنا لأجل الإنسانية سوى هذه الكتب، في وقت يحمل المناضلون السلاح، في فلسطين ولبنان والرياح الأربع؟» قد لا تفي عبارة الأديب السوري الراحل حنا مينه الكتابة حقّها كفعل نضاليّ، وقد لا تكفي للتعبير عن نظرة قائلها نفسه إلى الكتابة وجدواها، خصوصاً مع اقتطاعها من سياقها الذي لا يتّسع له المقام هنا، لكن حسبها أن فيها شيئاً من التواضع المحمود للكتّاب، إذ يستصغرون شأن عطائهم في غمرة إكبارهم لرجال يبذلون حيواتهم رخيصة في سبيل ما يؤمنون به. مناسبة استحضار هذا النقاش حول أكثر أشكال التعبير وفاءً للفكرة وأعظم طرق التضحية في سبيلها، أنّ «بطلاً من زماننا» استطاع جمع مجد الإخلاص لقضيته من طرفيه، وأعفى نفسه من عبء هذه المقارنة وما تختزنه من إحساس بالتقصير والعجز، فكان روائيّاً وقاصّاً وصحافيّاً ورساماً وكاتباً مسرحيّاً غزير الإنتاج عظيم الموهبة، وسياسيّاً مناضلاً لا يوفر فرصة لمقارعة العدو، وليس أدلّ على إيلامه العدو في هذه وفي تلك من انتهاء حياته القصيرة شهيداً بانفجار عبوة إسرائيليَّة ناسفة في بيروت في الثامن من تموز (يوليو) 1972. من قرأ ما خلّفه غسان كنفاني (1936 ـــــ 1972) من إرث عظيم يفهم سرّ هذه الثنائيَّة التي كرَّس سنوات عمره القصير لها، فالمقاومة المسلحة في عرفه ليست قشرة، بل ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقاً في الأرض، وإذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقيّة، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، وإرادة التحرير ليست سوى نتاج طبيعي ومنطقي وحتمي للمقاومة التي تتخذ شكلها الرائد في العمل السياسي والثقافي، وبهذا المعنى، فإنَّ الشكل الثقافي في المقاومة ليس أقل أهمية من المقاومة المسلحة بل هو الأرض الخصبة التي تستولدها. لكنّ سؤالاً لا بدّ من أن يُطرح حول مقدار راهنيَّة غسان اليوم فكراً ونضالاً، بعد مرور أكثر من نصف قرن على استشهاده، وهو الذي لم يعش أكثر من 36 عاماً، فهل تبقى الأفكار صالحة بعد كل هذا الوقت للاستلهام الثوري؟ وهل يمكن الربط بين تصاعد وتيرة العمليات الفدائيَّة وتوسّع رقعتها ووصولها إلى أماكن لم يفكّر العدو يوماً أنها ستصبح خاصرة رخوة لكيانه الهشّ، واقتراب حلم التحرير الكامل من التحقيق، وبين طيف غسان ورجال آخرين ظن العدو أنَّه تخلص – بالقتل - من خطرهم إلى الأبد؟ سؤال حملته «الأخبار» إلى أدباء وشعراء فلسطينيين في الذكرى الحادية والخمسين لاستشهاد المناضل الرمز الذي كان ملهماً لأجيال كثيرة، ونظرته إلى الكتابة بصفتها شكلاً من أشكال الكفاح الإنساني بمعناه الأشمل والأوسع
رسم لعبد طويل (أكريليك ـــــ 70×50 سنتم)


مع كل مقاوم
رشاد أبو شاور (*)
عرفت غسان كنفاني سنوات قليلة عن قُرب، وعرفته أكثر وأعمق وأنا أقرأ كل ما كتب في حياته القصيرة، وأعيد قراءة ما كتب من روايات، وقصص قصيرة، وكما تعلّم هو من القاصّة والمترجمة سميرة عزّام تعلّمنا منه، وفي مقدّمة ما تعلمناه: أن تكون حياتنا جادّة وصادقة وأن نقرن الكتابة بالفعل، وهو ما اختطّه بعضنا لنفسه، وما زال وفيّاً له، سائراً على نهج غسان كنفاني. نتذكّره ليس لأنَّه استشهد، واستشهاده قيمة مضافة تحققت له، وتوَّجت حياته القصيرة، وأعطت مصداقية لكل كلمة كتبها، فهو كتب في الميدان، ولم يكن متفرّجاً... ولكن لأنه ترك لنا زاداً فكرياً نتغذّى منه في معركة وجودنا كأمّة. منذ البداية، في قصصه القصيرة التي ضمَّتها مجموعاته «عالم ليس لنا» و«موت سرير رقم 12» و«أرض البرتقال الحزين»، قدّم غسان قصصاً مختلفة، لا تستدرّ الشفقة، لكنها تُشخّص المعاناة بعمق، وبتقنية متجدّدة توصل نصوصه وما تتضمَّنه من أبعاد إنسانيَّة في التجربة الفلسطينيّة. عندما قدَّم غسان للقارئ العربي روايتيه «رجال في الشمس» و«ما تبقّى لكم» أضاف جديداً إلى الفن الروائي العربي، فتلقّف القارئ العربي هذين العملين بما فيهما من تجديد، ورؤية، ومفهوم للمكان (المتحرّك) في «رجال في الشمس»، والزمان (المحايد) في الصراع بين حامد الفلسطيني و(اليهودي) التائه المدجّج بالسلاح! والزمن محايد إذا لم تكن فاعلاً ومواجهاً ومغيّراً لمجراه بالمقاومة. العدو الصهيوني أراد بتفجير سيارته صبيحة يوم 8 تموز 1972 به وبابنة شقيقته لميس، أن ينهي حضوره، ويقتلع تأثيره في الوعي الفلسطيني بخاصة والعربي بعامَّة، وأن يُرعب من سيأتون بعده من الكُتاب والصحافيين والمفكرين والمثقفين العرب ويردعهم، ولكن بعد 51 عاماً على تمزيق جسده، ها هو يحيا أكثر، ويتجدَّد حضوره مع كل مقاوم من أبناء شعبنا وأمتنا. سيبقى غسان كنفاني حيّاً ما دام شعبه الفلسطيني حيّاً ومقاوماً، وما دامت أمتنا تنجب مقاومين شعارهم فلسطين واحدة كاملة، وتواصل الصراع مع عدوّنا حتى إنهاكه واجتثاثه.
(*) روائي وقاصّ فلسطيني

نحتاج إليه...
وداد طه (*)

انتمى غسان كنفاني إلى «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين»، وصار المتحدث الرسمي باسمها، لكنه لم يصرح يوماً بغفلة أو خيانة أيّ حزب آخر، وقد كانت هناك خلافات جذريّة، ولكن كانت الوجهة واحدة، الأرض والإنسان، بينما نسمع اليوم ونشاهد الحروب الداخليّة، ومواقف السيادة الفارغة من أيّ معنى سياديّ حقيقيّ، من أطراف كلّ منها هو البطل، والواقع أنّ فلسطين لم ترجع إلى يومنا، والشرخ الإيديولوجي يتعمق، والمصالح الشخصيّة وربما الإيغو الحزبيّ يتعالى، وقنوات الاتصال مفتوحة على كلّ احتمال، فيما الأمهات والزوجات لا يزلن يقفن أمام العتبات يلوّحن للشهداء. إذاً نحن في واقع مرتهن للتطرف والشخصنة والمصالح الماديّة، وقد كان كنفاني حرّاً من ذلك، سعيه أن يعود إلى أرض البرتقال الحزين، من دون أن يختصر بمواقفه أو يظنّ أنه يختصر الحقيقة التي توصل إلى الوطن. «الوطن يا صفية هو ألا يحدث ذلك كله» نحتاج إلى غسان كي نعي أنّ الأجساد تسقط ويبقى الوطن منارة للعابرين.
من جهة ثانية، انتبه كنفاني إلى أنّ الوطن في المستقبل: «لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط... أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل» فأين واقع السياسيين الفلسطينيين اليوم من تأسيس مستقبل فلسطينيّ قادر على محاكاة الحياة المعاصرة؟ لقد شهدنا كيف يمكن لشاب فلسطينيّ يقاوم أن يوثق لحظة استشهاده، وكيف يمكن لأغنية راب أن تعلم الناس عن حكاية فلسطين، أو لرواية شخصيّة أن تعيد صياغة لحظة تاريخيّة قد شوّهتها سرديات الاحتلال، السبب برأيي عائد إلى ارتفاع استحقاق الوعي الفرديّ، فالشخصية الفلسطينية عرفت تطوراً، وما عادت مختصرة في صورة المهجر أو الفدائيّ أو الشهيد، ولم يعد ممكناً إخفاء مساهمات التطور التكنولوجي في إذكاء تلك الشخصيّة ورفدها بما يجعلها تحكي لغة العصر وتوصل رسائلها بدقة وسرعة ومهارة، أي إنّ الفسطينيّ اليوم يحيا المستقبل، يحياه في مماشاة العصرنة، والإفادة من منتجات التكنولوجيا، ويعي أنّ صورة الضحية لا تليق به، وهذا ما سيجعل الوعي الجمعيّ الفلسطينيّ حرّاً من لغة الاضطهاد، مريداً لنوعية حياة أكثر تفهماً لحاجة الفرد في الطمأنينة التي ناشد بها في أرض البرتقال الحزين في حديثه عن عمر الإنسان «لقد بقيت عشر سنوات. عشر سنوات فقط، أليست جديرة بأن يعيشها الإنسان بطمأنينة؟»
نحتاج إلى غسان لنعي أنّ الحريّة هي حسن استغلال العمر في الرضى عن اللحظة المعيشة. والشهادة هي أن تقوم بالحقّ الذي عليك في اللحظة التي هي الآن وهنا، وبإمكاناتها المتاحة.
نحتاج إلى غسان لأنّ البطولة اليوم باتت تمارَس بكبسة على زر إرسال تغريدة، وهو عرف بطولة الأنبياء ونبوءات العارفين.
نحتاج إلى غسان كي نعي أنّ الموت لا يخيف «فالصقور لا يخيفها أين تموت». نحتاج إليه كي نجترح معجزة الحياة بحريّة، بدءاً من تفصيل صغير كالصمت أمام هرطقات وجعجعة الكلام في يومياتنا، مروراً بالحرية من التعلق وفرض الرأي في علاقاتنا وليس نهاية بالحب، فهو أوّل كلّ شيء وآخر كلّ شيء، وهو وطن من أرض صلبة يمكن أن تحقق للفلسطينيّ الإنسان تماساً مع الجميع وتجربة من السماح عمقها كائن في بحثها عن الشبيه في الجميع، في النضال من أجل الحقّ، في الاعتراف بأنّ البحث عن النور لا يمكن أن يكون في غرفة معتمة، في أنّ النور هو خط النهاية.
(*) روائيّة وقاصّة فلسطينيَّة.

المثقّف الملتزم
إبراهيم السعافين (*)

نذر غسّان كنفاني نفسه منذ نعومة أظفاره للتفكير في قضايا وطنه وأمته وقد اكتوى بنار اللجوء منذ طفولته بعيداً عن وطنه ما جعله يفكّر، شأن كثيرٍ من أبناء جيله، في عوامل النكبة ونتائجها. وقد أتيح له، بما امتلك من موهبة إبداعيّة مبكّرة، أن يعبّر عن هموم شعبه ومعاناته في إطارٍ قومي وإنساني. وقد بدت جذور الرؤية لدى هذا المبدع العبقري منذ مطلع شبابه حين كتب قصته القصيرة «لؤلؤ في الطّريق» في أواخر الخمسينيات، تلك القصّة المنشورة في مجموعته «موت سرير رقم 12»، وهي القصّة التي تجلّت رؤيتها على نحو أعمق في روايته الأولى «رجال في الشّمسِ» التي نشرها عام 1963. رواية صوّرت هشاشة الواقع الفلسطيني وبؤسه آنذاك، فلم يكن الحلّ في نظرهم حينئذٍ إلّا الحل الفردي الذي ينجو به الناس فرادى من واقع مرير من دون تفكير في أصل المعضلة والبحث عن حلّ يستجيب لهموم الجماعة وأحلامها وتطلّعاتها. وكان يمكن لغسّان أن يجعل الرجال الثّلاثة على اختلاف أعمارهم وهمومهم وتطلّعاتهم يحققون بعض أحلامهم أو أن يحقّق أحدهم هدفه القريب كما جرى في الواقع الموضوعي، لكنّه بنى روايته على وهم هذا الحلّ في الهرب شرقاً لبناء حياة جديدة ونسيان جذر المعضلة فاختار لهم نهاية مأساويّة شنيعة مذلّة، أن يموتوا خانعين مستسلمين في جوف الخزّان الذي تشوي حرارته في شهر آب أمخاخ الإبل - وكانت صرخة أبو الخيزران قائد الصهريج الفاشل على نحو ما ذهب بعض النقّاد «لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان» بدل الاستسلام المغيظ لمصيرهم دعوةً للتفكير في الحلّ الجمعي بدل الحلّ الفردي الانهزامي باتّجاه الغرب حيث الوطن السّليب وساحة المواجهة. هذه الدّعوة التي ترجمها في رواياته رمزيّاً كما في «رجال في الشّمس» ورواية «ما تبقّى لكم» حيث كان قدر الفتى الهارب من مواجهة الواقع أن يواجه الجندي الصهيوني في الصحراء ويستولي على سلاحه ومائه ليقتله ظمأً كما مات رجال الخزّان. إلى أن تصبح الصّرخة المدويّة دعوةً صريحة للمقاومة في رواية «عائد إلى حيفا» ورواية «أم سعد» وفي الرّوايات الأخرى في سياق بروز ظاهرة المقاومة ردّاً على الهزائم المتوالية منذ النكبة الصّاعقة إلى النّكسة الزلزال.
غسّان كنفاني رمز الأديب المثقف الملتزم الذي قرن الكلمة بالفعل وكان استشهاده مصداق ذلك كلّه.
(*) أديب وناقد أردني مولود في الفالوجة ـــ فلسطين، رئيس لجنة تحكيم «جائزة غسان كنفاني»

الأرض المتواطئة مع أبنائها...
عادل الأسطة (*)

كثيرون ممن قرأوا «رجال في الشمس» وتابعوا، في الوقت نفسه، ما قام به المقاومون الستة في جلبوع، من حفر نفق والتمرد على واقع السجن، رافضين الموت بصمت في السجن، ربطوا بين حفر النفق ورواية غسان ورأوا أن الستة قرعوا جدران خزّانهم/ سجنهم. لست أول من ربط القصتين معاً؛ قصة الرواية وما فيها من تخييل وقصة الستة الواقعية تماماً، فهناك من سبقني في ذلك، لكن ما لم يلتفت إليه أحد هو ما كتبه غسان في رواياته عن علاقة الفلسطيني بأرضه ومساءلته في عالم متغير، وتحديداً بعد ستين عاماً تقريباً شهدت فيها الأرض الفلسطينية الكثير من التغيرات. في روايات كنفاني فكرة أتى عليها بكلام مباشر تارةً وكتابة غير مباشرة طوراً، هي تواطؤ الأرض الفلسطينية مع الفلسطيني ضد المستعمر الإنكليزي وتعاطفها أيضاً مع الفلسطيني ضد المحتل الإسرائيلي.
في رواية «رجال في الشمس»، تكون صحراء الكويت قاتلة وشمسها حارقة، فالفلسطيني لم يألفها ولم يتعوّد عليها، في حين لا تكون صحراء النقب في «ما تبقّى لكم» كذلك للفلسطيني حامد. إنها تبدي تعاطفاً معه. وحين يحتمي بها خوفاً من أن يكتشف أمره وينبطح «جامداً ملتصقاً تماماً بصدري، أحس نبضه يسيل إليّ دافئاً وثابتاً...». إنها تحس به وبنبضه يسيل إليها دافئاً وثابتاً. وترى أنه كان «يتفوق على خصمه بأنه لم يكن ينتظر شيئاً، مثلي. بالنسبة إلي كان يعني بقاء وليس عبوراً، هو الآخر، ولكن لأنه لم يكن يريد، بعد، الذهاب إلى أي مكان». إنها صحراؤه لا صحراء يريد أن يعبرها وحسب كصحراء الكويت «بالنسبة إليّ كان يعني بقاء لا عبوراً».
كثيرون رأوا أنّ ما قام به المقاومون الستة في جلبوع هو قرع جدران خزّانهم/ سجنهم


في رواية «العاشق»، غير المكتملة يتعقّب الضابط الإنكليزي بلاك المقاوم الفلسطيني عبد الكريم من دون أن يتمكن من الإمساك به، ما يجعله يقول: «فلا سائق الشاحنة كان شريكاً في الحدث، ولا النجدة وصلت في وقتها، ولا أنا عثرت على عبد الكريم... أتدري؟ كنت أقول لنفسي وأنا عائد مع الخيبة والمرارة والتعب إن الأرض ذاتها هي المتواطئة والشريكة، وإنك لكي تقبض على عبد الكريم عليك أولاً أن تلقي القبض على الأرض».
كانت الأرض الفلسطينية في روايات كنفاني إذاً متواطئة مع الفلسطيني ومتعاطفة معه وكانت ملاذه وملجأه. كانت المكان الذي يحميه من المستعمر.
في قصة زكريا الزبيدي وإخوانه الخمسة، لم تحمهم الأرض الفلسطينية، إذ سرعان ما اكتُشِفوا وألقيَ القبض عليهم ثانية. ومن المؤكد أن علاقتهم بالأرض لم تكن مثل علاقة عبد الكريم بها وأن زمنهم مختلف اختلافاً كبيراً عن زمن عبد الكريم وزمن حامد، وعدا ما أشرت إليه من اختلاف علاقة كل منهم بالأرض، فهناك التطورات التكنولوجية الهائلة التي حدثت خلال ثمانية عقود، وهناك التغييرات الكبيرة التي أجرتها الدولة العبرية على الأرض وقد التفت إليها توفيق فياض في مسرحيته «بيت الجنون».
مع ما سبق فقد بقي من الأرض الفلسطينية بعض شواهد على ذلك الزمن الفلسطيني. إنه نبات الصبار وثمر هذا النبات هو ما أسعف بعض السجناء الستة في البقاء على قيد الحياة وعدم الموت جوعاً.
(*) ناقد فلسطيني.

توأمة البندقية مع النصّ والطلقة مع الكلمة
محمود علي السعيد (*)

باليقين المشرئبّ كعنق الحقيقة سطوعاً، وبالتأكيد القاطع الذي لا تشوبه شذرة اعتساف أو تلمسه قطرة ظنّ، أو تخامره إشارة سلب وجرعة توجّس، بأنَّ راهنيَّة سريان تيار الكهربة والمغنطة والمسّ لأدب أيقونة الثقافة الفلسطينيَّة، وبوصلة توجّهها ومرقد أسفارها غسان كنفاني في أديم أوصال ضلعين من أضلاع مثلث الزمن الماضي والحاضر في أوج توهّجها، وأنصع عطائها، وهي تضخّ من الثمار أنضجها، والمواسم أخصبها، والموائد أوفرها وأدسمها، ومنظار عينيها يرنو إلى المستقبل تشوّقاً واستمراريّة حضور. فبمسح بانورامي لمجمل ما يدور من فعاليات كتابيَّة هادفة، وأنشطة متوخّاة في ساحات واقعنا الثقافي المعيش في هذه الحقبة التاريخيَّة من عمر العصر الإسبارطي الماثل ليس في ذكرى مسلسل سنوات الاستشهاد فقط بل وفي جلّ المناسبات الوطنيَّة والإنسانيَّة والقوميَّة، تدهمك إيجاباً، وتصدمك ألقاً بعض إنجازات هذا الرقم النضالي الصعب وقت استشراء مدّ الرخاوة والضعضعة والقنوط من «عائد إلى حيفا» و«رجال في الشمس» و«أم سعد» و«ما تبقّى لكم» و«العاشق» و«أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» وغيرها، وقد أصبحت بعض قطوفها شيفرة حكمة، وأمثولة روي، وسفارة تجربة، تلهج بها الألسن والمهج، وتتناقلها الجموع، وتعتنقها الملل والمذاهب، كمقولة «لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان» و«خيمة عن خيمة بتفرق»، فالتكافل الوظيفي، والتعاضد المنهجي لمجمل الأجناس الأدبيَّة (من القصة والرواية والمسرحية والشعر والخاطرة والمقال السياسي، إضافة إلى التشكيل بلوحاته الفاتنة) في حصاد سيرورة غسان كنفاني الإبداعيَّة الدنيويَّة الأشهر راية، والأعلى منصة بالتواشج مع الفعل النضالي المنقطع النظير، وخاص الاستثناء، بتوأمة البندقية مع النصّ، والطلقة مع الكلمة، والخطوة مع المؤدى والمرمى والمبتغى، ما جعل من غسان كنفاني دون أقرانه مدرسةً تتلمذت على مقاعدها أجيال وأجيال. تعريجاً على هامش المتن القولي: كم تثلج صدورنا، وتغبط أفئدتنا، وتبتهج سريرتنا نحن (اتحاد كتّاب فلسطين ـــ النادي الثقافي الفلسطيني ــــ بيت الذاكرة الفلسطينية، في حلب المتنبي وسيف الدولة الحمداني والسهروردي وخير الدين الأسدي) بإحياء ذكرى غسان كنفاني في كل عام بأحرّ الأعراس عارضين فيلم «غسان كنفاني أسطورة العشق الفلسطيني» لمخرجه رامي السعيد على جمهرة من عشاق المواقف. أقول: كم أضحت القضيّة الفلسطينيَّة بخاصَّة، وباقي القضايا الإنسانيَّة العادلة والمحقّة بعامَّة - في هذه الأيام العصيبة من عمر التقويم الأرضي الدهري آن انبطاح سدنة الكراسي والمرتفعات يستشري كالدودة الشريطية، وأشاوس فلسطين وميامينها يرفعون اليد احتجاجاً ويسطّرون بدمهم المراق أسمى آيات البطولة والتضحية والبذل – بحاجة ماسة ومطلب ملحاح إلى فروسيَّة موقفك، وشهامة وعنفوان قامتك، وقدوة وأصالة مسيرة حياتك بشقيها الكتابي والسلوكي.
(*) ناقد فلسطيني.

القلم الذي أرَّق الكيان
زكريا أبو غالي (*)

رغم اغتياله المأسَاوي في بيروت في الثامن من تموز 1972، بقي إرثه الأدبي حيّاً حتى اليوم، واستمرَّت أعماله في إلهام الأجيال اللاحقة من الكتّاب والنقاد.
غسان كنفاني رمز للكتابة الفلسطينيَّة وشاهد على الصمود والإبداع في وجه القمع والاحتلال. بفضل عطائه الأدبي ونضاله السياسي، استطاع أن يرسخ مكانته كواحد من أهم الكتّاب العرب في القرن العشرين. إنَّ إرث غسان الأدبي ما زال حاضراً في كلماته وأفكاره ورؤيته الثاقبة للحقيقة الفلسطينية. يستمر تأثيره في دفع الأجيال الجديدة من الكتّاب والقرّاء إلى الوقوف بجانب العدالة والحرية. وما زالت الأفكار والرؤى التي نادى بها مثل حقوق الشعب الفلسطيني وتسليط الضوء على معاناة اللاجئين الفلسطينيين، أهميَّة المقاومة الشعبية والأدبية والثقافية إلى جانب المقاومة العسكرية ودور الثقافة والأدب في صناعة التغيير، الهوية الفلسطينية والتراث الفلسطيني، الوحدة الوطنية، العدالة الاجتماعية والمساواة، تلهم أجيالاً من الكتّاب الفلسطينيين والعرب حتى اليوم.
(*) سيناريست فلسطيني.

أمُّه زيتونةٌ وأبوه فجرٌ
جهاد الحنفي (*)

غسّانُ
والحبرُ المقدّسُ
في يديْهِ
نبوءةٌ من نارْ
غسّانُ
والقلمُ المحلِّقُ
في مدى صفحاتِه
نسرٌ عنيدٌ
لا ينامُ على انكسارْ
كانت توشوشُه المنافي لا تنمْ
البحرُ طفلٌ
مقلتاكَ سريرُه
من ذا يغنّي للصَّغيرِ
ومَن سيفتحُ للنَّوارسِ راحتيْه
ومَن سيحرسُ إنْ غَفوْتَ الحلمَ والأسوارْ
مَن أنتَ يا غسَّانُ...
لا أدري...
لعلَّ غمامةً بيضاءَ
مرَّتْ ذات يومٍ فوق عكَّا
تستطيعُ البوحَ أكثرَ...
إنَّه ظلُّ السَّماءِ على المرايا
لهفةُ القمرِ المَشُوقِ إلى الحكايا
أمُّه زيتونةٌ
وأبوه فجرٌ
أنجباهُ ذاتَ موّالٍ
وإخوتُه التُّرابُ...
تقولُ غمامةٌ أخرى
عرفناهُ يُحبُّ الحقلَ
يعرفُ كلَّ أسرارِ السَّنابلِ
يحفظُ من قصائدِها الكثيرَ
ولا ينامُ كما الصِّغارُ
بما تجودُ به المساءاتُ المضيئةُ من حكايا
كان ينصتُ للسَّماءِ
وكان يحكي للتُّرابِ
ويقتفي حلمَ الطُّيورِ
وكان صخرُ البحرِ دفترَه الوحيدَ
وحبرُه الزَّبدَ الشَّفيفَ...
حكايةٌ تكفي لتبحرَ في مجازِ الماءِ
أو تشدو وحيداً
في فضاءٍ لا نهائيٍّ...
هنا عكَّا
هنا وطنُ البدايةِ والنّهايةِ
قالها غسَّانُ للوجهِ الغريبِ
سنعبرُ الشَّوكَ المؤدّيَ نحو منفانا
ولكن لن نموتَ
دماؤنا أرقى من الموتِ الرَّخيصِ
على ترابِ الغيرِ
لا منفى يغيِّرُنا
ولا منفى سيكسرُنا
هنا المنفى...
أرى غسَّانَ يُشهرُ حبرَه...
في صدرِه
نبضاتُ من رحلوا
ومن قُتِلوا
وفي عينيه أرضُ البرتقالِ حزينةٌ
لا تهجرِ الأوراقَ يا غسَّانُ
خضِّبها بنزفِكَ
كي يظلَّ الدَّربُ أوضحَ
في ليالينا الطَّويلةِ
كي تظلَّ الشَّمسُ تزهو بالرِّجالِ
تُرى لماذا يقتلونَ الحُلمَ
هل غابتْ رؤاك عن الوجودِ
وأنت تمضي واثقاً...
ولعلَّ من فرحوا بصرختِك الأخيرةِ
لم يكونوا يعلمونَ
بأنَّ هذا العمرَ أقصرُ ما يكونُ لقاتلٍ
وجدَ الرَّصاصةَ
حجَّةً أقوى بمعركةِ الحوارْ
سيظلُّ حبرُك ثورةً
والعاشقونَ لحرفِك الرّاقي همُ الثُّوارْ
يا «أمَّ سعدٍ» زغردي
عادَ الشّهيدُ إلى الدّيارِ مكلّلاً بالغارْ
اليومَ لا نبكي عليكَ
بعرسِكَ الأبديِّ بل نبكي علينا
كيف لم نقرأْ دليلَ الفجرِ بعدُ
وكيف أخطَأْنا مواسمَ الانتظارْ
كم قلتَ لا تشكوا من الأمواجِ
لا... لا تسرفوا بالشَّتمِ... شتمِ البحرِ
كونوا واضحينَ لتصرخوا
ما أتعسَ البحَّارْ
غسَّانُ
لا تقلقْ وإن متْنا قليلاً في تفاصيلِ الجهاتِ
لعلَّنا نصغي إلى أعماقِنا
نَهَبُ الحقيقةَ حقَّها
ونقولُ لم ننجحْ هنا...
وهنا اختلَفْنا تحتَ سقفٍ واحدٍ
وهنا تأخَّرْنا لنتَّخذَ القرارْ
لا بأس
إن قلْنا فشلْنا
ليس يعلو النّسرُ فوق الغيمِ
إلا حين ينفضُ عن جناحيه الغبارْ
ماذا تبقَّى بعدما هَوَتِ القلاعُ
ولم يعدْ في وقتِنا وقتٌ
لنحزنَ من جديدٍ
كلُّ ما نحتاجُه كفّاكَ والحبرُ العظيمُ
لنرتقي فوق الحصارْ
طالَ الظَّلامُ
ونحن صمتُ دروبِنا
حرِّضْ خطانا للذّهابِ إلى النّهارْ
سيمرُّ عامٌ
بعد عامٍ
بعد عامٍ...
كلَّما اشتقْنا إليكَ
وكلَّما هتفَ التّرابُ
نراك تسبِقُنا لعكّا
حاملاً بيديكَ بيرقَ الانتصارْ
(*) شاعر فلسطيني.