باريس | أمعنَت السّنوات الثلاث الماضية في قسوتها على العالم شعوباً وأفراداً وغيّرت كلّ ما ألِفوه، ففي لكلٍّ مفصلٌ فيها، ما عادت حياتُهم بعده كما كانت قبله. وليست استثناءً عائلة إلياس الرّحباني الصّغرى والكبرى مضافاً إليها مجتمعٌ ثّقافيٌّ وفنّيٌّ برمّته خطف منه وباء كورونا على حين غفلةٍ، في 4 كانون الثاني (يناير) 2021، عميدَه وإحدى دعاماته. قامةٌ فنّيّةٌ جعلت من الموسيقى عصَب حياةٍ، ومن الفرح والبهجة أسلوب عيش. اختارتهُ الموسيقى قبل أن يختارَها، وحمّلته مسؤوليّةً ليست باليسيرة، فعلّقت على كاهليه آمال أخوين حضناه ودعماه شقيقاً وابناً ورفيقاً، فكان لهما استمرارية لم يوقِفها محضُ التّماهي مع إرثَيهما الأسطوريين، بل تمايزَ بخطّه ونهجه على نحوٍ رفد تَرِكَتَهُما وأغناها، وأبقى على نفسه رقماً صعب الاستبدال وخسارةً عصيّةً على التعويض.اقترن اسم الرّاحل إلياس الرّحباني على مدى سنوات حياته الثلاث والثمانين (1938-2021)، مؤلِّفاً موسيقيّاً وملحّناً وعازف بيانو وقائد أوركسترا ومنتِجاً، بأسماء كبيرة اصطفى لكلٍّ منها ألحاناً أو أغنياتٍ طبعت مسيرتها وأثْرت ريبرتوارها، من فيروز إلى وديع الصّافي ونصري شمس الدّين، أو ملحم بركات وماجدة الرّومي وسامي كلارك، وغيرهم الكثير ممن عاصر هؤلاء أو تلاهم. غنّاه كُثُرٌ خلال سنوات عطائه الطّويلة، وأعاد غناءَهُ كُثُرٌ أيضاً، من باسكال صقر إلى باسمة وغيرهما، عبر أغنياتٍ منفردة أو أوبريتات وحفلاتٍ موسيقيّةٍ كاملة، لم يكتفِ بها الرّحباني بدور المؤلّف الموسيقي، الملحّن والموسيقار، بل أدار أدقّ تفاصيلها بِعَصا المايسترو الذي لا تفوته دقائق الأمور، وكاريزماه الآسرةِ لأعضاء أوركستراه قبل جمهوره. كان آخرَ من رافقه على المسرح في حفلاتٍ بقيادته خلال السّنوات الأخيرة لمسيرته الثنائي جيلبير جلخ ورانيا غصن الحاج غناءً بمرافقة نجله غسّان الرحباني على البيانو، فجاب بأرشيفه عدداً من المدن اللبنانيّة والعربيّة على السّواء. أقلُّ من شهرٍ يفصلنا عن الذكرى السّنويّة الثّانية لرحيل إلياس الرّحباني. لم يَحُلْ صقيع كانون غير المسبوق الذي تشهده العاصمة الفرنسيّة منذ أسابيع، ولا مباريات كأس العالم، دون امتلاء «مسرح الفنّ الثّالث عشر» في مركز Italie Deux في باريس مساء الثلاثاء الماضي. لكنّ المشهد كان منقوصاً هذه المرّة، إذ غاب إلياس الرّحباني جسديّاً عن منصّة المايسترو، تاركاً لابنه غسّان إدارة الفرقة، عازفين وكورال ومغنّين. كان الوقع ثقيلاً على غسّان الذي أخذ يذرع المسرح جيئةً وذهاباً حين دخوله المسرح، كأنّ ألم فقد الأب لم يكن كافياً، فها هو اليوم يعيش أيضاً ألم فقد الأستاذ والقائد والملهم، يختبر الوحدة في أكثر اللحظات التي يتمنى فيها الابن ــ مهما تمكّن وتقدّم في العمر ـــ أن تأخذ قدوتُه بيده وتشدَّ عليها، علَّ شيئاً من القلق يزول.
«كلّ الوقت حاسس أنو عم يتطلّع فيي، وعم خاف وأنا عم العب موسيقى» يقول غسّان لنا. لقد كان فعلاً كذلك... كان إلياس حاضراً منذ اللحظة التي أخذ فيها أعضاء الفرقة مواقعهم على المسرح، يراقب استعدادهم، يتفقّد «دوزنة» آلاتهم، فكانت الحفلة من النّاحية التقنيّة، صوتيّاً وبصريّاً، أقرب إلى الكمال، تماماً كما كان ليُحبّ ويتمنّى لأمسيةٍ تحمل اسمه وتشدو بأعماله.
رغم ألم إلياس على ما مرّ على لبنان الذي أحبَّ من أوجاعٍ ومآسٍ، وقد ترجمه انكفاءً على نفسه في سنوات حياته الأخيرة، إلا أنّ ريبيرتواره الذي يربو على 6000 قطعةٍ موسيقيّةٍ و3500 «جينغل» إذاعي وتلفزيوني وإعلاني، كان ينضح بمجمله بالطّاقة الإيجابيّة وروح الدّعابة المحبّبة، وهو ما نجح الثّنائيّ جيلبير جلخ ورانيا الحاج في نقله إلى الجمهور بحضورهما الآسر و«الكيمياء» التي جمعت بينهما وناغمت بين أدائهما على المسرح، ناهيك بمقدرات كلٍّ منهما الصّوتيّة المميّزة، بخاصّة في ما علا من طبقات، طبعتها الرّخامة في حالة جيلبير، والرّقة والشّاعريّة في حالة رانيا.
انقسمت الأمسية إلى قسمين، كان أوّلهما وأكبرهما حصّةً ما جرى إخراجه كقصّة حبٍّ موسيقيّة بين رجلٍ عاد إلى قريته بعد غيابٍ لملاقاة الفتاة التي أحبّ، فكان أن افتُتِحت المشهديّة بـاستحضار الرّاحلة صباح بأداءٍ ثنائي لـِ«جينا الدّار يا أهل الدّار، ليلتكم سعيدة»... سعيدةً فعلاً كانت ليلةُ الثالث عشر من كانون الأوّل (ديسمبر). أمّا ثاني أغنيات الحفلة، فكانت «يا قمر الدّار سلّم عالحبايب» للرّاحل وديع الصّافي، وأدّاها جيلبير، لِترُدّ عليه رانيا بـ«بيني وبينك يا هالليل» التي سبق أن أدّتها كلٌّ من هدى حدّاد وجورجيت صايغ، أَتبَعها جيلبير بـ «لمّا شفتا عشقتا لحقتا» للرّاحل نصري شمس الدّين، والذي يتمتّع جيلبير جلخ بشيءٍ من حضوره على المسرح. فاصلٌ قصير بعيداً عن الكلام المُغنّى استحضر غسّان فيه على البيانو بمرافقة الفرقة رائعة إلياس الرّحباني «دمي ودموعي وابتسامتي»، لِيَلِيَهُ الدويتو الذي عُرفَ به محمّد جمال ورونزا «كنا أنا وأنت نتمشّى عالطّرقات»، ثمّ «عَ ضو القمر مشّاني حبيبي» التي سبق أن أدّتها جورجيت صايغ في مسرحيّة «أيّام الصّيف».
يعود جيلبير بِروح وديع الصّافي مؤدّياً «قتلوني عيونا السّود». أمّا الأداء المسرحيّ الأجمل، فكان استحضاراً للرّاحل ملحم بركات في «عشرة، احدعش، اتناعش»، حتّى إنّ الجمهور كان يرغب بإعادة القصّة التي يحفظها عن ظهر قلب عشرة، و«احدعش»، وحتى «اثناعشر» مرّة لو تسنّى له ذلك. بقيت روح ملحم بركات حاضرة، وعاد الثّنائي مع إطلالةٍ وثوبٍ جديدين للجميلة رانيا، وأغنية «لا تهزّي كبوش التوتة»، حتّى ليحار الجمهور إن كان جيلبير أقرب بحضوره على المسرح لنصري شمس الدّين أم لملحم بركات.
لا مهرب طبعاً من شيءٍ من أغنيات «الفرفشة» الأحدث قليلاً، من خلال «برّات البيت عاملّي عنتر» لفريال كريم في مسرحيّة «وادي شمسين»، والتي جدّدتها طبعاً من بعدها فرقة «الفور كاتس». كان للرّاحل سامي كلارك أيضاً نصيبه من ألحان إلياس الرّحباني كما من برنامج الحفلة، فكانت أغنيته «آه على هالأيام».
بفاصلٍ آخر من «دمي ودموعي وابتسامتي»، انتقل بنا مهندس الحفلة، غسّان، إلى الحصّة الفيروزيّة من أعمال والده، بـ«يا سنين اللي رحتي ارجعيلي»، لكنّ أيّاً منها لن تعود، مع الأسف. ثمّ انتقالٌ انسيابيّ إلى «يا حبيبي دوّبني الهوى» لملحم بركات، لتعقبه «خدني حبيبي» و«كل شي عم يخلص» لماجدة الرّومي. وكما كانت للفنّانات المحدِّثات ما بعد عام 2000 نصيبٌ من أعمال الرّحباني، كانت لإليسا حصّةٌ في هذه الحفلة، عبر استحضار أغنيتها «لو فيي».
لا يُذكَرُ إلياس الرّحباني من دون استرجاع الوصلة الأشهر «دخلك يا طير الوروار» لفيروز، و«يا مارق عالطّواحين» لنصري شمس الدّين، ولا بأس من «قومي تنرقص يا صبيّة» لسامي كلارك، و«رقّصني دخلك يا حبيبي» لصباح، و«لاقيني عشيّة» لعصام رجي. وبذلك كان الانتقال إلى القسم الثّاني من الحفلة، بعيداً عن قصّة الحبّ الموسيقيّة، إلى «النّوستالجيا» كما سمّاها غسّان، إحدى مفردات حياة كلّ مغترب، بدءاً بـ«عم بحلمك يا حلم يا لبنان» لماجدة الرّومي، ثمّ «اشتقنالك يا بيروت» لباسكال صقر. ولا بد بطبيعة الحال من التّعريج على أغنيةٍ فرنكوفونيّة Paris… Paris كشاهدٍ على تأثّر الرّحباني ببلدٍ وثقافةٍ طَبَعا كثيراً من أعماله.
عودةٌ إلى فيروز والثّنائيّة «كان عنّا طاحون» و«حنّا السّكران» التي كان من المقرَّر أن تُختتم بها الأمسية، لولا إصرار اللجنة المنظِّمة للحفلة على إعادة «عم بحلمك يا حلم يا لبنان»، لتكون مِسك ختام ساعتين تمنّى غسّان أن يكون قد قدّم خلالهما ما يليق بتاريخ والده وإرثه. وهو فعلاً ما كان بإجماع جمهورٍ مُنْتَشٍ قلّ نظير تفاعله مع ما يقدّم له عادةً في أمسياتٍ موسيقيّةٍ مماثلة، فكانت منه وقفةٌ طويلةٌ احتراماً لقامةٍ لن تَفِيَها أمسياتٌ حقّها، وسيبقى رحيلُها -ولو بعد عُمرٍ كاملٍ زاخرٍ بالإبداع- خسارةً لأجيالٍ تجدُ غُربتها في زمنٍ ما عاد نِتاجه الفنّيُّ يُشبِهها في شيء، وأُخرى أقلَّ حظّاً لم يتسنَّ لها أن تُعاصر زمن ذروة عطاء الكبار... الكبارِ قدراً وقيمةً كالمبدع إلياس الرّحباني! ويبقى العزاء الأكبر دوماً بابنَيه غسّان وجاد، ولهما...