لم يتوقّف قمر الزمان علوش (1948 ــ 2022) عن السجال يوماً. في أيامه الأخيرة، فوق سرير المرض، كان يبارز الموت وجهاً لوجه: «سأسير محصّناً إليه، مرتاح الضمير، خالياً من المخاوف، لديّ ذخيرة لا تصدأ». وحين عاد من المعركة مطعوناً بالشبهات، كتب ما يشبه المرثية في وصف رحلته الأخيرة: «راجع من صوب الموت حقاً. أقولها وأنا أحس ببعض الغرابة. أظن أنّ نهاية الرحلة كلّها كانت كما السقوط في العدم السحيق الذي لا عودة منه. لجّة من العماء بلا بداية ولا نهاية نتطاير فيها بحثاً عن نور قادم». صبيحة أوّل من أمس، سجّل عدّاد الموتى غياب مبدع سوري آخر في قائمته الطويلة. تبّاً للمهزلة التي لا تتوقّف عن العدّ في هذه المقبرة المفتوحة بدوام كامل. لطالما كان قمر الزمان علوش حاضراً كواحد من السوريين الشرفاء، وهو يرى خريطة البلاد تُنهب علناً، مستنفراً حبره ووعيه في تفسير ما حدث ويحدث غير عابئ بفداحة الفاتورة التي تنتظره في خنادق الأعداء والأصدقاء في توقيتٍ واحد، فطرحه مسائل مثل العلمانية، والمواطنة، والشعارات الجوفاء، والزيف، والخداع، أوقظت الوحوش النائمة في الجوار ليقع فريسة حملة تخوين نارية إثر منشور غاضب، جاء فيه: «بعد خمسين عاماً من المقاومة، النتيجة: عشرون مليون جائع، وعشرون شخصاً يمتلكون سوريا». وحين أحسّ بحجم الفجيعة وشظايا الحطام، قرّر أن يغلق حائطه الأزرق في الفايسبوك ويعلن حداده الشخصي: «لم يعد لي مكان بين الحواجز الإسمنتية والأسوار، لأنّ الكرامة فيه مهلكة. الحقيقي سيرحل ومن سيبقى سيكون وهماً». بدأ قمر الزمان علوش حياته مساعداً لوالده في كتابة العرائض في بلدته البحرية جبلة، كأول تمارينه في الكتابة والحياة، إذ تعرّف إلى أحوال البشر المظلومين عن كثب، هؤلاء الذين رافقوه في رحلة الكتابة لاحقاً بكل ثقل همومهم وتطلعاتهم كشخصيات غرائبية تتناوبها خشونة العيش، وشفافية الحلم. في منتصف سبعينيات القرن المنصرم، انتقل إلى دمشق للعمل في صحيفة «تشرين» لحظة تأسيسها، كواحدٍ من ورشة الثقافة في مرحلة توهجها، وخاض سجالات كثيرة، قبل أن ينعطف نحو الكتابة الدرامية مستثمراً ذخيرته الأدبية في أعمال نوعية تتأرجح بين الواقعية السحرية والتطلعات البصرية، فاختبر روايته الأولى «هوى بحري» تلفزيونياً، ثم انخرط في لعبة المرئي، متكئاً على أعمال عالمية مثل «ليل المسافرين» التي اقتبسها عن رواية فيكتور هوغو «البؤساء»، و«الأرواح المهاجرة» عن «بيت الأرواح» لإيزابيل الليندي، و«طيور الشوك» عن رواية للكاتبة الأسترالية كولين مكلو، مراهناً على جماليات الصورة والنبرة الشعرية والمخيلة المفتوحة على الحلم. هكذا، كتب سيناريوات تلفزيونية مهمّة تتعلّق بالسيرة الذاتية لكوكبة من الشخصيات الاستثنائية مثل «أسمهان»، و«نزار قباني»، و«كليوباترا»، بالإضافة إلى سيناريوات أخرى بقيت في أدراجه، مثل «لورنس العرب» لخلاف مع الرقابة. أعمال تنهض على رافعة أدبية، لجهة الحوار في المقام الأول، في رهان على فرجة مختلفة، ومقترحات موازية للأصل، مع بصمة بيئية، كما أنجز في سنوات الحرب سيناريوات سينمائية عالج فيها أحوال الكارثة السورية، كان آخرها «أنت جريح». ولكن ماذا عن قمر الزمان علوش روائياً؟ يقول في حوارٍ معه حول مفهومه للرواية: «أرفض أن يتحوّل الروائي إلى كاميرا فوتوغرافية، عليه أن يخرج ما وراء الصورة إلى الرؤية، ويستوحي ما وراء هذا العالم مما هو خفي وغير مرئي ليكتشف ما لا يراه الآخرون، وهذا يعني الانغماس في ألم الإنسانية الواقعية ثم الخروج إلى بهاء الحالة المشتهاة». كانت روايته الأولى «هوى بحري» (1998) ترجيعاً لبيئته الأولى، إذ رصد مجتمع الصيادين والبحّارة بفكاهة عالية على خلفية فانتازية تستمد روحها السردية من أجواء الواقعية السحرية، متأثّراً بأدب أميركا اللاتينية على نحوٍ معلن. وفي روايته الثانية «بريد تائه»، سنقع على خلطة من الشخصيات والمصائر المعلّقة، واستنفار الحواس، تبعاً لأهواء الراوي. ههنا بلدة يضربها الجراد، ومكتب بريد تتراكم في خزائنه الرسائل قبل أن يلتهمها الجراد في إحدى غزواته. رواية تستدعي شخصيات غارقة في الوحدة والعجز والشيخوخة والفقدان من دون أن تجتاز المستنقع الراكد إلى ضفاف أبعد. مناخات ماركيزية باذخة حتى إننا لن نجد فرقاً بين هيلانة بائعة الورد التي «استغلّت جسد حفيدتها من أجل الثراء، وكانت تحدد أجراً معيناً عن كل جزء من أجزاء الجسد يرغب الزائر في رؤيته من خلال كوة المقصورة»، ووقائع رواية «أيرانديرا الطيبة وجدتها الشيطانية» لماركيز. فضيلة كاتبنا أنّه رسم خرائط جديدة لبلدته الصغيرة، وإذا بالحكايات العجائبية تبزغ من أكثر الأماكن إهمالاً عن طريق شحنها بمخيلة تعمل بطاقتها القصوى «أخذت ختماً من أختامه ووضعته في جيب فستانها وقالت له: هذا يجعل لنا شيئاً خاصاً للذكرى. سأظل أحتفظ بذكرياتي عنك كبقية إمساكك بالأختام، وكلما رنّت أجراس السرير تذكّر أنّ روحي تحلّق فوق هذا المكان»، يقول. هكذا، زاوج الكاتب الراحل بين الرواية والسيناريو التلفزيوني لجهة السرد والبلاغة البصرية وخصوبة المعنى، مؤكداً سيرة جدلية تتطلع إلى صناعة الجمال أكثر من ارتطامها بالوقائع المريرة للعيش. أدرك صاحب «بريد تائه» جهات التيه التي عصفت في البلاد، فاختتم حياته قائلاً: «جميعنا موتى، ولكننا نُدفن واحداً تلو آخر».
* يتواصل تقبّل التعازي اليوم الأربعاء وغداً الخميس في منزل أخيه مقداد الواقع في قرية العسالية في ريف اللاذقية، من الساعة العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساءً.