أما في رواية «قبل البدء حتى»، فلم يتحمل «سعيد» الحالم، العيش في مدينة «عين البرد» حيث الأيام «منضبطة لا تثور ولا تحتج؛ أيام مدجنة تمشي بخطى موزونة وتنسخ الملل.. أيام تعطل محركها لنفاد وقود الدهشة». توالت خيباته، فأنهى أيامه في مستشفى مجانين مخاطباً الفلاسفة والرُسل، شاكياً وطأة المنفى بين الأهل، ومتذكراً «ميشال» الجميلة التي لم تستطع أن تنسيه «حيّ التنيس»، الذي ورد ذكره في الرواية السابقة، ولا «شارع العرب»... ولم تستطع جرأة أخته «نوارة» الثائرة على العبث والأسر أن تنقذه، ولا جنون صديقه النادل «عمر» الذي كان يكتب الرسائل لابن لم يولد بعد. يدور السردُ في هذه الرواية حول محطّة قطار، وفي كلّ مرّة يكشفُ زاوية مِنها كأنّ السارد يحملُ كاميرا باليد، وفي آخرِ المَطاف يفسح المجال للمحطة لتتكلّم عن نفسها.
وفي «جبانة الغربة»، يتطرق إلى كل أشكال التعسّف والظلم وما يمكنُ أن يعانيه الفرد، لكن بأسلوب روائي ممتع، وبأفكار مكثّفة مختَصرة، فهو لا يثرثر حين يكتب ولا يكرّر نفسه، بل إنّ الرواية عنده مركزة، حيث كل عبارة تحتمل أكثر من تأويل. يقول في «جبانة الغربة»: «الحياة تقويمٌ مروع يمكن فيه التنبؤ بكل الأحداث، كل شيء مبني؛ متوقع؛ مقرر؛ مسطّر؛ منطقي؛ مخطط له؛ خاضع لطقس بارد يقتل الدهشة والعجب...». ويقول عن مدينته «بئر الوحل» إنّها «مدينة للخواء بالولاء. كل يوم يتملّص سكّانها الأقحاح من متطلبات الحياة، وينحرون الرّغبة على صفحات كتاب منحول. بئر الوحل [...] سقط تتناوب عليه الضباع. بئر. ثقب من غير منفذ وفرجة. جوف مقبرة ضيق. حفرة. قبر. قعر. جفر. طلسم. غيهب يندب زمنه الجميل. نفق. نفاق. حفر. فضيحة. الحياة فيه كأنها امرأة عفّرت في الفطام...». يعيش «محسن» في مدينة «بئر الوحل» عزلةً رهيبةً ويقضي أيامه بين بحثين: الأول عن ذاته وسمفونيته الخاصة من خلال رسومات مشبعة بتأثير المدارس التشكيلية وعلى وقع الموسيقى الكلاسيكية.
نصوص ذات حلقات وجيزة وأساليب متعددة تؤثر التشظي في السرد
أما الثاني، فهو بحث صديقه «نبيل» الذي يريد أن يفك لغز مسألة غريب «جبانة الغربة»، فيقلب تحقيقه حياته ومسلماته رأساً على عقب لأن نتيجة نبش القبور والأرشيف وخيمة. هكذا هو محمد بورحلة: ذو أسلوب خاص في الكتابة، منح لنصوصه فرادَتها في تحويل الواقع إلى روايات، والتطرق إلى إشكاليات عدة منها الهوية، الآخر، والمنفى على وجه الخصوص. كما أصدر عشر قصص ومسرحيتين بالفرنسية، والكثير (15) من المسرحيات بالعربية نذكر منها: «الملك يلعب» (جائزة أفضل نص أصلي ـــ الدورة السابعة من «المهرجان الوطني للمسرح المحترف»، الجزائر العاصمة، 2012 )، و«ليلة غضب الآلهة»، و«في انتظار المحاكمة»، و«عودة الولي» المسرحية المقتبسة من رواية الطاهر وطار «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي». خلال إحدى جلساتنا معه، وصف الكتاب بأنّه «متعة بحقّ وفرصة لتحصيل المعرفة وتوسيع الأفق البشري. ومن دون الشّغف به، يكون حبّ الحضارة مجرّد ادعاء. من دون كتاب وقراءة، ليس هناك فكرٌ ناقد أو نضج سياسي أو مجتمع متمدّن، بل ليس هناك جمال أو خيال متفتّح على عوالم العجب والدهشة. وبخصوص الأدب فإنه يكتسي في مجتمعاتنا المؤسسة على الكبت والمَسكوت عنه والتابوهات والكثير من النفاق، أهميّةً بالغةً لأنّه يسمح بإعادة تأهيل ذاتيّة مضطّهدة تتوق إلى التحرر ومقاومة الاستلاب والعدَم الذي تفرضه علينا عاداتٌ وأنساق لها طعم البديهيات وشكل السياج». وصف يذكّرنا يعبارة إينيو فلايانو بأنّ الكتاب يحلم، الكتاب هو الشيء الميّت الوحيد الذي يحلم». لكنّك حين تقرأ روايات محمد بورحلة، تخرج بتساؤل: هل يمكنُ للذي يعيشُ في هكذا مدن متشظّية أن يخرجَ سالماً ومُعافى؟