طبول الحرب تقرع في في شرق أوروبا وترفع منسوب الأدرينالين عالمياً. الجميع يخشى تدهور الأمور الى ما لا تحمد عقباه، فتكفي شرارة هنا أو هناك حتى تقع الواقعة، وتستعر نار الوغى وتنتشر في ارجاء المعمورة. في ظل هذه الاجواء المحمومة، لا بد لنا من أن نتساءل عن فلسفة الحرب ودورها في حياة الشعوب. الحرب التي يعرفها عالم السياسة دانيال ويبستر على أنّها صراع مسلح بين دول أو أمم عدة، هي حدث يصنع التاريخ ويغير وجه العالم، لكن في الوقت عينه تقضي على حياة الآلاف أو الملايين من البشر. لطالما أبهرت الحروب أولئك الذين يعشقون الانقلابات ويرنون الى المجد. وعلى المقلب الآخر، تسبب النزاعات القلق لأولئك الذين يخشون دفع حياتهم وحياة عائلاتهم ثمناً لها. في عام 1913، قبل عام من مقتله على الجبهة، اعتبر الشاعر الفرنسي تشارلز بيجي أن الصراعات الحربية يمكن أن تكون ذات قيمة رمزية ومعنوية هائلة. برأيه، «مهما كانت مآسي الحرب فظيعة، فعلى الأقل يمكن تعويضها. فهناك شرف الحرب وهناك عظمة الحرب». فهل يصح فعلاً أن نرى وجهاً ايجابياً للحرب خلف كل هذا البؤس الحاصل؟الحق يقال بأنّ الحرب تجسيد للكراهية وانتصار لثقافة الموت والنهب والإبادة الجماعية. الحرب تفاقم أيضاً الفقر وتولد المجاعات والأوبئة. وبالإضافة إلى الأنقاض التي تحدثها، تترك جروحاً مفتوحة لا تندمل في ذاكرة الشعوب وقلبها. أي إنسان عاقل يستطيع أن يرى في الحرب وصورها المشؤومة مظهراً من مظاهر الشر المطلق. الكاتبة الاميركية مرغريت ميتشل التي عاشت الحرب الاهلية الاميركية بين ولايات الشمال والجنوب، حدثتنا عن أهوالها في رواية «ذهب مع الريح» وبينت تأثيرها في حياة الناس واحوالهم من فقر وتشريد وموت وتفريق للأحبة. كذلك فعل الكاتب الفرنسي هنري باربوس الذي كان جندياً متمركزاً في مقدمة الجبهة العسكرية خلال الحرب العالمية الاولى، فاستطاع أن يصف لنا بشكل موضوعي في روايته «تحت النار» المصائب التي شهدها ويخبرنا عن «رائحة الدم واللحم والمذابح» التي أزكمت أنفه وبقيت في ذاكرته كالكابوس. ورغم تحمس باربوس بداية للمشاركة في الحرب ولكنه حين انخرط في القتال العنيف واكتشف حالة الترقب والخوف واليأس التي تعتري الجنود في الخنادق، انقلب من مدافع شرس عن الحرب الى داع للسلام العالمي، وقال عبارته الشهيرة «لعن الله الحرب». لذلك فمن المشروع التساؤل عما إذا كانت النتيجة المرجوة من الحروب (الهيبة العسكرية، الاقتصاد، السيطرة على مناطق جديدة) تتطلب كل هذه الخسائر والتضحيات الكبيرة.
لكن من ناحية أخرى، تعتبر الحرب وسيلة لاعادة التوازن ومرحلة انتقالية بين فترتي سلام وضرورة لانهاء الصراعات بين الدول حين تسدُّ المنافذ السياسة وتنعدم الحلول. يقول كارل فون كلاوزفيتز فيلسوف الحرب المعروف إنّ «الحرب ليست غاية بحدّ ذاتها. نحن لا نقاتل أبداً لمجرد القتال، بل لإحداث السلام، والهدنة، أو شكل معين من السلام». أما الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط، فقد اعتبر في كتابه «نقد ملكة الحكم» أن السلام الطويل يؤدي الى تنامي النزعة المادية الصرفة في المجتمع، جنباً إلى جنب مع الأنانية والجبن والخمول، بالاضافة الى تدني مستوى تفكير الناس. لكن حين تُدار الحرب «بنظام واحترام للحقوق المدنية»، فإن فيها «شيئاً سامياً في حد ذاتها» وهي تجعل تفكير الأشخاص الذين يخوضون غمارها راقياً، خاصة بعد مواجهتهم كافة الأخطار المحدقة بهم ومحافظتهم على حياتهم بشجاعة. كما أنّ دراسة تاريخ النزاعات العسكرية عن كثب، تظهر لنا بأن التقدم الكبير لأي أمّة يحدث بعد الحرب لأنّها تعطي دفعاً كبيراً للاقتصاد من خلال عمليات اعادة البناء ومن خلال الانفتاح على أسواق جديدة.
لا شك أيضاً في أنّ تعرض الوطن للتهديد الجماعي يدفع الشعب بشكل عفوي للاتحاد ويثير انتفاضة وطنية تتصاعد خلالها المشاعر القومية، فتُنسى الخلافات الطبقية بين مختلف فئات المجتمع. بهذا المعنى، فإن تضحية الفرد بنفسه من أجل الوطن حينها تصبح مقدسة ونبيلة. بالإضافة إلى ذلك، تؤمن الحرب التنفيس الوجداني أي تطهير النفس من العواطف الزائدة وتجددها وإصلاحها من حيث أنها تسمح للمواطنين الذين تعرضوا لهجوم معين بالتعبير عن عنفهم الكامن والدفاع عن ذاتهم وكرامتهم.
تتمتع أوقات الحرب كذلك بميزة مهمة جداً هي أنّ التاريخ يتحرك خلالها ويبتسم للجريئين وللشجعان، فتتاح للمقاتلين العديد من الفرص لتسلق سلم المجد والشهرة والكثير من الأماكن الرائعة للاستيلاء عليها ، ويمكن التعرف على قيمة الفرد وجدارته بسهولة أكبر في أوقات عدم الاستقرار هذه. على النقيض من ذلك، تتوقف حركة التاريخ في سنوات السلم لأنّ بطاقات اللعبة الاجتماعية محجوزة سلفاً لأصحاب الامتيازات الراسخة ولافراد الطبقات المحظية في المجتمع.
يرفض بعض المفكرين إرجاع مسالة اندلاع الحروب لارادة بعض الشخصيات السياسية والعسكرية المهيمنة على صنع القرار. يرون أن هناك نوعاً من الحتمية التاريخية في الحرب وأن حدوثها وكيفية تطورها يعودان الى قوى تفوق قدرة الانسان الذي قد يستطيع التحكم ببدايتها، لكنه يعجز عن توقع مجرياتها. وقد عبر الاديب الروسي تولستوي في رواياته عن ذلك حين اعطى دوراً كبيراً للقدر في تسيير الاحداث. روى لنا صاحب ملحمة «الحرب والسلم» ما حصل مع نابليون بونابرت الذي غزا روسيا وحاول فرض سيطرته عليها، ثم انقلبت الامور ضده بسبب عوامل تاريخية عدة اجتمعت في لحظة معينة، وأدت الى هزيمته شر هزيمة منها صمود الشعب الروسي واتباعه سياسة الارض المحروقة، وحرب العصابات، وحلول فصل الشتاء الروسي المخيف، ونقص المؤن. مات الآلاف من جيشه الكبير وانسحب الناجون وهم يجرون اذيال الخيبة و الهزيمة. أما الكاتب المسرحي جون جيرودو، فلقد بين لنا في مسرحيته عن حرب طروادة محدودية دور الانسان في مسأله الحرب وعجزه عن منعها حين يعارضه القدر. فهكتور بطل «طروادة» حاول بكل طاقته وبمساعدة زوجته اندروماك تفادي الحرب مع الاغريق وتفاوض معهم وقرر اعادة هيلين الجميلة التي خطفها شقيقه باريس اليهم. مع ذلك، تقع الحرب لأنها مقدرة من قبل الالهة.