هل يُمكننا أن نصنّف رواية عربية ما كرواية للعام المنصرم؟ وأي مجموعة شعرية يمكن اعتبارها «الأفضل»؟ تبدو الإجابة مستحيلة. إذ إن المواضيع المتنوّعة التي يتناولها الروائيون اليوم بأساليب مختلفة وطرقهم في نسج الفضاء الروائي في الحبكة والسرد، وصياغة الفضاء الداخلي لشخصياتهم واستخدام تقنيات الكتابة المختلفة تجعل من عملية اختيار رواية واحدة تتصدّر المشهد مهمّةً شاقةً. أما الشعر، فتبدو عملية تصنيفه والمفاضلة بين المجموعات كمن يُطارد خيط دخان: إذ إنّ الشعر بطبيعته الزئبقية وسكناه في التحول واللاوصول، يستعصي على المعايير منذ كتاب أرسطو «فن الشعر»، وحتى الغبار الكثيف الذي سبّبه الجدل حول قصيدة النثر الحديثة. إلا أنّه يمكننا رصد «ثيمات» أثيرة في الرواية تفرض نفسها على الرواية والشعر، كمقاومة الإنسان للعنف والتسلّط والاستبداد، وكفاحه ضد الفناء، وتأرجحه بين خط اليأس وخط الأمل. كما فرضت كارثة الوباء المستجد (كوفيد 19) والتأمّلات في فرادة التجربة الإنسانية وحساسيّتها في العزلة والموت، نفسها على الشعر. وطبعت هذه التأمّلات مجموعات كثيرة صدرت العام المنصرم مثل «الحياة تحت الصفر» لعباس بيضون و«أكثر من عزلة، أبعد من رحلة» لجودت فخر الدين.
إعادة طباعة الأعمال الكاملة للشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري

على صعيد الرواية، يمكن الإشارة إلى رواية الراحل جبور الدويهي «سمّ في الهواء» (دار الساقي) التي لم تحمل طالعاً سعيداً. بعد فترة قصيرة من صدور الرواية التي تؤرّخ لسيرة بطلها منذ خروجه من قريته حتى انعزاله في تلة مشرفة على العاصمة، فُجع الوسط الروائي والأدبي بوفاة الدويهي. في كل أعماله منذ «اعتدال الخريف» (1995) الى «ريا النهر» (1998) و«عين وردة» (2002)، وصولاً إلى روايته الأبرز «مطر حزيران» (2006) ورواياته الأخيرة مثل «طبع في بيروت» (2016) و«ملك الهند» (2019)، عوّدنا الدويهي على سرد ممتع ومحكم يزخر بالشخصيات التي تحمل كل تشظّيات الهوية اللبنانية، وانشطاراتها وتمزّقاتها وعلاقاتها المعقّدة بالمكونات الأخرى وأحياناً بمكونات البيت الواحد، والعنف الذي ينفلت من عقاله وغيرها من القضايا الشائكة. ولا تخلو الرواية الأخيرة من إشكالية الموت بكل أشكاله وصولاً إلى موت المدينة في انفجار المرفأ. رواية أخرى عالجت أحوال العنف والعسكرة في المجتمعات العربية هي «مدينة من رماد» للشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي (1940) التي أعادت «منشورات الجمل» طباعتها بعدما نفدت طبعتها الأولى (1989). كأنّ آلة الذل والمهانة التي نكّلت بالعزاوي الذي نشر أكثر من عشرين مجموعة شعرية ورواية وكتاباً نقدياً ودفعته للهجرة نهائياً من العراق إلى برلين حيث يعيش اليوم ككاتب متفرغ ينشر أعماله بالعربية والإنكليزية والألمانية، هي نفسها التي تصفع وجه جليل. إذ إن المعاون قاسم قد تعلّم في الكلية أنّ العالم بدونه كشرطي يكاد يكون مستحيلاً: «عالم بدون شرطة! من يمكن أن يتصوّر ذلك؟ تعلّم أنه لا يدافع عن حكومة بالذات وإنما يقف ضد الفوضى، فإذا ما اختفى الشرطي من الوجود، فإن العالم سوف يمتلئ بالمجرمين الذين لن يتوانوا عن ارتكاب أبشع الجرائم. لكنه مع الزمن نسي حتى هذه القاعدة وسقط في أسر العادة التي تخصّ كل شرطي في العالم: أن يعتبر كل الآخرين أعداءه».
رواية عربية شكّلت حدثاً سعيداً هي «صباح الخير يا يافا» للروائي المصري الشاب أحمد فضيض التي توّجت بـ «جائزة الرافدين للكتاب الأول» التي تنافست فيها أكثر من ثمانين رواية. امتازت رواية فضيض بجرأتِها في اقتحامِ عالمٍ لم يُقدّم بهذه الدقةِ والتفصيلِ من قبل، هو عالم التعايشِ الصعب في يافا بينَ المستوطنين الإسرائيليّين وأهلِ المدينةِ الفلسطينيّين الذين عُرفوا بعرب 1948. تستحضرُ الرواية خصوصيةَ مدينةِ يافا المفتوحة على البحرِ بشوارعها الحديثة التي أُعيدت تسميتها وبمنتدياتها وأسواقها ومشاغل أهلها وتاريخها القريبِ والبعيد. مركز الرواية عائلة فلسطينية من يافا بقيت في دولة الاحتلال وصارت جزءاً من الدولة العبرية. يطرحُ أحمد فضيض عَبرَ اثنتين وخمسين لوحة من يومياتِ المدينة والعائلة، الحياةَ الداخليةَ لشخصياتِهِ من مختلفِ الأجيالِ بما تنطوي عليه من هواجس ثقافية وسياسية وتاريخية بصدد الحاضر والمستقبل. الرواية التي شكلت استثناء في فوزها بجائزة «بوكر» العام المنصرم هي رواية «دفاتر الورّاق» للأردني جلال برجس التي تتناول الاغتراب لدى الإنسان وترسم أكثر من بورتريه قاتم عن عالم الفقر والتشرد وفقدان المعنى، «لكنّ شخوصها وخطابها المعرفي لا تفتقد للحلم بل تنتصر له، وتشيع الأمل رغم كل ما يحدث»، كما يقول كاتبها في إحدى مقابلاته.
على الصعيد الشعري، كانت عودة الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا بمجموعة حملت عنوان «عندنا الآلهة والأغنية وجارنا المطرب والصدى» عن «دار نلسن» بمثابة البشرى السارة لمحبي الصوت المتفرد لصاحب «ماء إلى حصان العائلة» و«حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة». إذ يعود أبي شقرا بقوة إلى ريبيرتوار الكلمات والصور الريفية التي ألفناها في أعماله الأولى في ما يشبه العبث الطفولي بسيمياء اللغة وخلخلة البناء المنطقي للشعر ومن خلفه العالم: «يقترب الشتاء الجنتلمان/ من درجات الوشوشة/ ويسمح لكرة الصراع/ أن تمشي على الكورنيش كما ترفّ الجفون/ والثغر والقبلة أن يخالطا/ روح الحانة وزنديق المعرفة». محبّو الشعر الكلاسيكي لا بدّ من أنّهم سيجدون في إعادة طباعة الأعمال الكاملة للشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري حدثاً استثنائياً، إذ أنجزت وزارة الثقافة العراقية في «لجنة الشؤون الثقافية» الصيف الفائت نسخةً «رسمية» من ديوان الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري (1899– 1997) بمراجعة واعتناء من الوزير حسن ناظم، وسعيد عدنان ونادية العزاوي وسعيد الزبيدي. آخر نسخة تبنّتها الدولة للشاعر الذي وجدت أشعاره صدى في قلب كل عراقي وعربي، كانت طبعة وزارة الإعلام العراقية عام 1974 في «مطبعة الأديب البغدادية» بمراجعة كبار علماء الأدب واللغة وقتئذٍ كابراهيم السامرائي، ومهدي المخزومي، وعلي جواد الطاهر، ورشيد بكتاش. خطوة جبارة أنجزتها «دار المدى» بإعادة طباعة «الكوميديا الإلهية» لدانتي بحلة أنيقة عن نسخة حسن عثمان بمراجعة عن الإيطالية من قبل المترجم السوري معاوية عبد المجيد. وهو وإن لم يكن كتاباً شعرياً عربياً، إلا أنه قد تلاقح مع الكثير من التراث العربي وسمح كما يقول المفكر المغربي عبد الفتاح كيليطو بإعادة اكتشاف الذات (أشعار المعري وكتاباته) في مرآة الآخر. خطوة أخيرة مهمة قامت بها «دار النهضة العربية» العام الفائت بإطلاق مشروع «أصوات» الذي يسلط الضوء على أصوات شعرية شبابية جديدة من لبنان والعالم العربي وتقديمها إلى المشهد الثقافي العربي، مثل «لا ماء يكفي الغرقى» لمحمد رضا و«هارمونيكا السفينة، نشاز الطوفان» لعلي شمس الدين، و«المرآة جدار آخر» لأحمد الأمين، و«ظلّ يظن نفسه شخصاً» لباسل الأمين (لبنان)، و«ثلاثة وعشرون عاماً في الوحل» لعثمان الدردابي (المغرب)، و«أغنيات لليوم التالي» لصفاء سالم اسكندر، و«زهور تلوّح كالعادة بقصائد مضحكة» لميشيل الرائي (العراق)، و«قمر جديد من أجلي» لمروة بديدة (تونس).