أعطاني سماح قضيّتي الأولى، والمدخل لباقي القضايا. أوّل ما أتذكّر به سماح هو رعايته. تعرّفت اليه في أول لقاء حضرته لـ «حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان». كانت قد أخذتني رانية، بسيّارة عفيفة، من أحد مقاهي الحمرا الى مقرّ حركة الشّعب. شقّة قديمة متروسة بالبوسترات الثوريّة، وفي احدى غرفها طاولة خشبية كبيرة جلس عليها أشخاص لم أكن أعرف كم سيعنون لي بعد فترة وجيزة. تعرّفوا عليّ وعرّفوني أنفسهم غير مبالين بالألقاب، عدا لقب واحد هو لقب «رفيق». أشركوني في صناعة قرار الحملة من اللقاء الأول، ولم تمنعهم أعوامي الـ 19 من الاستماع بجدّية لهواجسنا ومشاريعنا.
بعد ذلك اليوم، تحوّلت القضيّة التي آمنت بها قبل أن أولد من قضيّة يحارب لأجلها أشخاصٌ أحبّهم، إلى قضيّةٍ ملموسة أمارس الالتزام بها في تفاصيل حياتي. أصبحت أرى زواياها المنسيّة وأحسّ بمسؤوليّة المبادرة تجاهها.
أتذكّر كم أبهرتني دقّة سماح في تحديد المعايير والاهتمام بالتفاصيل والالتفات الى الحقائق. وبقي سماح حتّى آخر يومٍ من حياته على تناسق مبادئه ووضوح بوصلته. كما أتذكّر نشاطه في الانخراط بكثير من المشاريع المتعلّقة بالقضايا التي اختارها، من الأدب واللغة الى السياسة وفلسطين.
نعى العالم سماح ادريس الكاتب، وسماح ادريس المحرر، وسماح ادريس الناشط، وسماح ادريس المثقف المشتبك. لكنّي عندما أذكر سماح، أذكر شخصاً فتح باب النشاط السياسي لنا. أذكر شخصاً أعطانا بتصرّفه معنا الثقة لنتكلّم في غرفةٍ مليئة بأشخاصٍ ذوي ماضٍ نضالي معروف وطويل. أذكر شخصاً حرص، وأدام الحرص، على انخراط الطلاب الجامعيين في العمل المقاوم، والعمل السياسي، ليس فقط كأفرادٍ في الحشود أو كمصفّقين، بل كمشاركين في صنع القرار، وصياغة الأفكار. أذكر شخصاً فتح للشباب باب الكتابة في مجلّته العريقة إن كانت كتاباتهم تستحق. أذكر شخصاً رأى خصوصيّة الجامعات ونظر الى طلّابها كرفقاء نضال.
كتب كثيرون عن مبادئ سماح، وعن التزامه بقضيّته واشتباكه المستمر في الجبهات المنسيّة. لكن ما قد لا يلتفت اليه البعض هو سماح الذي يمكّن، الذي يطلق حملاتٍ هدفها إشراك الشعب، كلّ الشعب، في القتال من أجل القضيّة، حتّى لا تبقى القضيّة مجرّد فكرةٍ بعيدة ننظّر لها، بل نعيشها ونتنفّسها في كلّ لحظة، ونستذكرها في كلّ يوم بأفعالنا. سماح الذي فعّل حسّ المبادرة لدى كلّ من عرفه. سماح القائد بشخصه لا بعنوانه.
فالعزاء العزاء اليوم لأسرة سماح، لابنتيه سارية وناي، ولرفيقة الصّعاب عبادة، لمحمود ورانية ودونا الغالين، لمجدولين التي حضنتنا كلّ اثنين، لهيام، لرجاء وعفيفة الشغوفتين، لرامي وعبد الملك العزيزين، لمحمد وبتول وأحمد وشيراز وأمل. لنجاح واكيم الذي كان يتفقدنا قبل وبعد وخلال كلّ اجتماع.
العزاء لأسرة الآداب، ولكلّ أطفال الملتقى الفلسطيني للشطرنج، أحبّاء سماح ومحبّيه.
والعزاء للقضيّة، التي خسرت أكثر مناصريها اتساقاً وانسجاماً.
انطفأ فينا اليوم أملُ ما.
انطفأ أمل البعض في التّعرّف على شخصيّةٍ فذّة، مناضلة، مفكّرة ومبادرة، ومربّية بالعمل لا بالقول.
لكن فليخسأ الخصوم والأعداء، فلم ولن تنطفئ شعلةٌ أطلقتها يا سماح في حياتك، وسنلتقي مجدداً على أرض فلسطيننا، تحتضنكَ الأرض باحتضان أطفال المخيّمات التي ما انقطعتَ عنها إلّا عندما أعياك الخبيث.