كانت الأوركسترا الوطنية اللبنانية تستعد لحفلة افتتاح الموسم في غياب نصف العازفين، واصطدم قائدها لبنان بعلبكي بواقع أليم إذ أصبح أمامه خياران: إما أن يقدم مقطوعة مجهزة لفرقة كاملة رغم العدد المحدود أو يُعدّ نسخة لعدد أصغر من العازفين.في يوم السهرة، ظهر ثلاثة موسيقيين آخرين متحدّين ضغوط الأزمة الاقتصادية التي دفعت عشرات من زملائهم للرحيل عن الفرقة، وتمكن بعلبكي من عزف النوتة الموسيقية الأصلية.
قال بعلبكي لـ «رويترز»: «كان شعورنا مشابهاً للحظة غرق التيتانيك وكيف فيه تمَسّك بأن الموسيقى تظل ماشية رغم كل شي عم يصير».
لم تسلم الأوركسترا الوطنية من تبعات الأزمة المالية التي دفعت بكثيرين في براثن الفقر لدرجة أن تأمين الضروريات الأساسية للحياة أصبح مهمة عسيرة.
تضافرت عوامل أخرى لتعميق الجراح مثل جائحة كوفيد-19 وانفجار بيروت في آب (أغسطس) 2020 الذي أودى بحياة أكثر من 215 شخصاً وألحق الدمار بقطاعات من المدينة بما في ذلك المعهد الوطني للموسيقى الذي تتدرب فيه الأوركسترا وتمارس العزف.
بعد انهيار العملة، تدنت قيمة رواتب ما يقرب من 100 موسيقي في الفرقة من 3000 دولار إلى حوالي 200 دولار فقط، مما دفع ببعض الأجانب منهم إلى حزم حقائبهم والمغادرة.
في هذا الإطار، يقول بعلبكي: «الأوركسترا كان تعدادها حوالي المئة موسيقي. كانت تؤدي أعمالاً ضخمة جداً، تغطي كل الأعمال الكلاسيكية. هلّق صار في صعوبة نؤدي بعض الأعمال الكبيرة اللي كنا نؤديها».
لا تكاد أجور من بقوا تزيد عن سعر الوقود اللازم للوصول إلى جلسات التدريب الأسبوعية، مما اضطر بعلبكي إلى تقليص عدد الحفلات الموسيقية من عشرات الحفلات في السنة إلى ما يعد على أصابع اليد الواحدة.
لكن الوضع بالنسبة للأوركسترا الوطنية هو مجرد مرآة ينعكس عليها التراجع الأكبر في كافة الساحات وعلى كل الأصعدة الثقافية في لبنان. ومن بين ضحايا تضافر الأزمة والوباء المهرجانات الصيفية التي كانت في السابق منارة للفنون بالمنطقة بما فيها من حضور لأساطين الموسيقى والغناء والرموز العربية.
قبل أن تتفجر الأزمة الاقتصادية، ظل المعهد الوطني للموسيقي مشلولاً لما يقرب من عشر سنوات بسبب نظام تقاسم السلطة على أساس طائفي في لبنان والذي يتم فيه توزيع المناصب المرموقة في المؤسسات العامة بين الساسة الذين يعينون موالين لهم من دون إعطاء أي اعتبار لعنصر الكفاءة.
وعندما توفي رئيس معهد الموسيقى وليد غلمية، وهو مسيحي أرثوذكسي، في 2011 لم يتسن العثور على بديل يشغل المنصب بشكل دائم لسبع سنوات. وتقرر تعيين رئيسين بالإنابة.
كان الأوّل بيروقراطياً بلا أي مؤهلات موسيقية، والثاني الذي يُنظر إليه على أنه مؤهل للمنصب، لم يتم تعيينه بشكل دائم لأنه كان كاثوليكياً وليس أرثوذكسياً.
وأخيراً، تولّى الموسيقي اللبناني بسام سابا المنصب في 2018 بعد عودته من الولايات المتحدة، لكنه توفي في السنة الماضية متأثراً بمضاعفات فيروس كورونا. ويخشى بعلبكي أن يستغرق الأمر سنوات أخرى لتعيين خليفة له. هنا، لفت إلى أنّه «نحن أسرى... نحن المعهد الموسيقي والموسيقيين والفنانين ومصير الفن والموسيقى بلبنان، نحن أسرى بهيدا البلد، أسرى هيدي الطبقة السياسية المصرة على أن تدخل الروح الطائفية».
رغم ذلك يقول إن الموسيقيين سيواصلون العزف. ويضيف: «نحن خُلقنا بهيدا البلد وهيدا قدرنا أن نلاقي حلول ونخلق فرص جديدة».