اليومَ ندرك بالبرهان الأكيد، فالشمس، وهي تغرب عن أرض،
ذاتها، وفي آن، تشرق في المقلب الآخر.
هكذا يرتقي الكبار وهم يلوّحون وداعاً،
في آنٍ يفتحون الأذرعة
مقبلين، متفتّحين، متوهّجين ومحتضنين.
هكذا المرتقي، العالي القامة النضاليّة، أنيس النقّاش،
في آنٍ يرجع بظلّه الشاسع
بروحه، بفكره، بمناقبه، بثباته، بجرأته،
بإقدامه، بإشرافه الحازم، بوثوقه
أنّ ثمار الكريم كريمة،
أنّ ميدان الفارس الفارس
كلُّ هذه الأرض التي لا تزال
على رغم كلّ هذه المسافات
الدينيّة والفكريّة والفلسفيّة،
وعلى رغم كلِّ هذه الأضواء العلميّة المجيدة
تنزف في أغلب جهاتها قهراً
من قوى ظلاميّة في عبادتها للذهب
أو للأصنام.
الراحل الكبير أنيس النقّاش
كم هو حاضر بالفعل،
كلّ صحيفة، عينُها الإنسان،
إسمه عنوان الصفحة الأولى،
كلّ تلفاز ينبض بالحياة الكريمة
يبثّ عن أنيس النقّاش..
كتفه يسند كتف فلسطين،
كتفه يسند كتف وطنه الأم لبنان،
كتفه يسند كتف أمّةٍ كاملة
ترزح مهينةً تحت نير الإستعمار الغربي،
مهينةً تحت رملِ بلادِ صحارى الرمل،
مهينةً بعبث صهاينة، وعربانٍ صهاينة، وأقلامٍ مأجورة،
حتى مهينةً بمواطنين لا يقرعون،
كما قال الشهيد الكاتب والروائي والمناضل غسّان كنفاني:
جدرانَ الخزّان،
مهينةً بالمهللّين لزعماء وقادةٍ «مطبّعين»
على رغم جرح فلسطين،
والذي لا جرح مثله بعدُ في الأرض،
لزعماء أو قادةٍ خونة وقتلةٍ وسرّاق،
لزعماء أو قادةٍ نشب عليهم نمِر لبنان..
بطلٌ اقترن إسمه بأسماء رجال:
بأبي جهاد، بوديع حدّاد، بكارلوس، بعماد مغنيّة،
بأعلامٍ بالإقدام، منشِداً مع الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود
الذي خاض معركة القسطل ضدّ المحتلّين واستُشهد:
«سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى،
فإمّا حياة تسرّ الصديق
وإمّا ممات يغيظ العِدى».
أكثر من خمسين عاماً ما ترجّل يوماً،
ما انحنى يوماً، لم يهن يوماً..
أكثر من خمسين عاماً،
فيما كثيرون فقدوا البوصلة،
فيما كثيرون ينتظرون «أعطيات».
أكثر من خمسين عاماً،
فيما كثيرون أداروا ظهورهم
أو نكثوا أو تنكّروا أو تحوّلوا
أو خرِفوا وانقلب الثانوي لديهم إلى رئيسي وبالعكس،
فيما كثيرون يجوز بهم ما قاله المسرحي الألماني العظيم بريخت:
«بئس أمّة ليس فيها أبطال»،
فيما كثيرون مؤسفون.. ظلّ أنيس النقّاش طوداً في أرضه،
ربيعاً في أهله، وفيّاً في إنتمائه..
وعنوانه بإجماع تاريخه، بإجماع معاصريه: هو فلسطين.
ارتقى المناضل قولاً وعملاً.. أنيس النقّاش أخيراً شهيداً،
وهل الأبطال إلاّ يُستشهدون؟.
بحر حياة وجبالها غرُبت، وفي آن
هي حياة تستمرّ حكايةَ شرفٍ وعنوانَ إباءٍ وتضحيةٍ
لأجيالٍ مقبلة.. حتى تحقيق الحلم.
في أعلى علييّن يا «أنيس فلسطين» حقّاً،
يا أبا مازن.. يا شهيدنا المحفور إسمك في ضمير كلّ حرّ:
أنيس النقّاش.