عقَد «مركز التراث اللبناني» في «الجامعة اللبنانية الأَميركية» ندوته الإِلكترونية الرابعة عشْرة عن بُعد حول «التراث الرحباني في مرايا غير لبنانية»، تركَّزت حول كتاب «الرحابنة: إِبداعٌ يستعصي على الزمن» الصادر حديثاً في البحرين، جزءاً سنويّاً عاشراً من سلسلة «أَطياف» التي تُصدرها «هيئة البحرين للثقافة والآثار».أعدَّ الندوة وأَدارها مديرُ المركز الشاعر هنري زغيب، واستضاف إِليها باحثِين في التراث الرحباني: من البحرين محرِّرَ الكتاب ومنسِّقَه غسان الشهابي، ومن البحرين أَيضًا عصام الجودر، ومن مصر سيِّد محمود.
غنى التراث الرحباني من بعيد
استهل زغيب الندوة بأَن الأَخوين رحباني «منذ ثلث قرن يملآن الفضاء الإِبداعي أَعمالًا متتاليَةَ التجدُّد: أُغنياتٍ، وحواراتٍ غنائيةً، ومسرحياتٍ، وحلقاتٍ تلفزيونيةً، وأُمسياتٍ مسرحيةً وتلـڤـزيونية، وأَفلاماً سينمائية، حتى بات مستحيلاً تأْريخُ الحركة الفنية الراقية في لبنان دون تتويجها بأَعمال الأَخوين رحباني... ومنذ نصف قرن والأَقلام تتناول التراثَ الرحباني الواسعَ الغنيَّ المنوَّع: مقالاتٍ صحافيةً ودراساتٍ جامعيةً وأَطاريحَ أَكاديميةً للدكتوراه والدراسات العُليا، فُصولًا في كتُبٍ، وكتُبًا مستقلَّة، جُلُّها في لبنان، وبعضٌ نيِّرٌ منها في دول عربية، يكتبها خبراء مكرَّسون في كلّ حقل من حقول الإِبداع الرحباني». وختم زغيب: «لأَن في الكتاب خمسَ عشْرة دراسةً، ستٌّ منها للُبنانيين، واللبنانيون على علاقة وطنية خاصة مع عاصي ومنصور، آثرتُ أَن أَدعو إِلى هذه الندوة عن بُعد، زملاءَ عن بُعد غيرَ لبنانيين، كي نرى كيف عن بُعد يرَون في مراياهم إِلى الفن الرحباني الذي تعهَّد لبنان، تراثاً وتقاليدَ وعاداتٍ وكلمةً محكية ولغةً بيضاء، وأَوصلَه إِلى العالَمَين العربي والغربي، أَعمالًا خالدةً تُشرقُ بشمس فيروز الرائعة وحضورِها الاستثنائي الخالد».
الشهابي: تراثٌ سيبقى جديداً
محرِّر الكتاب ومنسِّقُه غسان الشهابي أَوجز مشروع «أَطياف» بأَجزائه السنوية العشرة الصادرة حتى اليوم، ورأَى أَن التجربة الرحبانية «قَصُر زمانها أُفقيّاً لكنَّها كانت ربما أَعمق مما خطَرَ على قلب صاحبَيها، إِذ تُنسب إِليها الأُغنية اللبنانية، وتُنسب إِليها أَفضال تغيير المزاج العربي، ويُنسَب إِليها إِحياءُ المسرح الغنائي والاستعراضي، وما عاد يشار إِلى الموشحات إِلَّا ويترنّم المترنّمون بما أَبدعتْه هذه التجربة». وأَضاف: «بات للتجربة الرحبانية بصماتٌ على كل ما مرَّت به، وبات معروفاً أَنها تؤَثِّر، وتغيِّر، وتعيد ترتيب الأَولويات. فالرحبانيان (عاصي ومنصور) عرفا أَنهما يصنعان تاريخًا فنِّيّاً جديداً في زمانهما، وسيبقى جديدًا حاملاً فيه تجدُّده الداخلي بقْدر ما وهباه عمقًا ومحبَّة وإِخلاصاً وبهاءً، وبما أَسبغا على الكلمة واللحن من تجديدٍ بارع، خروجاً من التخت الشرقي أَو دُخولاً فيه، إِلى مزاوجات بارعة للكثير من الثقافات الدينية والدنيوية، التاريخ والحاضر، الخيال والواقع، وبما استحضراه من التراث الذي بات شكلًا رحبانيّاً يُنسب إِليهما».
محمود: التجديد في الشعر الرحباني
الباحث سيّد محمود تحدَّث عن الشعر الرحباني فاعتبر أَنه «خط بياني لرصد تحوُّلات الشعر العربي». وقال: «شيءٌ واحدٌ أَجمل من الموسيقى، هو عندما تلتقي العناصر الثلاثة في بوتقةٍ واحدة: اللحن والكلمة والصوت. فائض الطاقة هذا أُعطَيَتْ موهبتُه للثلاثي فيروز وعاصي ومنصور، في بداهةٍ تخترق أَكثف ظلمة، وفي سخاءٍ حَسدَتْهُم عليه الطبيعة».
وأَضاف: «مشروع الرحابنة لم يُسهم فقط في تطوير الموسيقى العربية، وفي بَلْورة مشروع موسيقي ذي شخصية مميزة ارتبطت بأَيقونة لها حضورها الذي صار تاريخيّاً: هي السيدة فيروز، بل مشروعُهما ذو آفاق امتدَّت حتى تركت أَثرها في تطوير خطاب الشعر العربي، متماهيًا مع تحوُّلات شهدها هذا الشعر في الخمسينات والستينات، بتأْكيد وجود قصيدة التفعيلة، أَو الدفع بقصيدة النثر (تلحينهما النثر كما في «المحبة» لجبران)، فكان الشعر الرحباني أَحد مسارات تيارات التجديد التي تَناغَم تدفُّقها في فترة زمنية واحدة».
الجودر: التشابه الذي يختلف
عصام الجودر تحدَّث عن «البساطة في التجربة الرحبانية - التشابُه الذي يختلف». وحكى عن «سرٍّ خفيٍّ، بل عن سحرٍ في أَغاني الأَخوين رحباني التي، بغناها وتفرُّدها، استطاعت أَن تتجاوز حدود جغرافيا لبنان الضيِّقة إِلى مستوى أَكثر اتِّساعاً، على الصعيد العربي أَو حتى العالمي. وهي زمنيًّا حتى اليوم، وربما إِلى ما بعد الغد، تَلْقى متابعةً واهتمامًا وشغفًا من الجماهير العريضة، بكل حبٍّ وحماسة ومتعة». ورأَى أَن الرحبانيَّين «نجحا في الاقتراب من مشاعر الجمهور وأَحاسيسه بيُسر وسلاسة دون التَنازل عن القيم الفنِّية التي يؤْمنان بها. ففي مجال الموسيقى والغناء لديهما، تكمن البساطة في الإِيجاز (المونوفونية) ووحدة الإِيقاع والثبات في درجة قوة الصوت والاقتصار على أَلوان صوتية محدودة».
وختم أَن «توصيف البساطة يشمل الكثير من أَعمال الأَخوين الغنائية. وأُسلوبهما لا يقتصر على استثمار أَو تكرار الجملة اللحنية بكثافة في الأُغنية الواحدة، بل يتمثَّل في شكل آخر: أَن يكون لحنُ الـمُقدِّمة هو نفسه لحنَ المذهب الغنائي».