حتى منذ كتابه الشهير عن «فلسفة المشي» (2008)، أو عن الفلسفة والمشي، كان فريديريك غرو (1965) متحمّساً للكتابة عن «العصيان». وكان يعتقد أن ثمة علاقة بين المشي والعصيان، من دون أن يحدّد في كتابه الأول هذه العلاقة بالضبط، مكتفياً بفكرة ساحرة تتعلق بقدرة المشي على تنظيم علاقة الجسد بالمساحة. كان يمشي ويكتب، يمشي ويجهز نفسه للعصيان. أخيراً، صدر كتابه بالعربية «العصيان: من التبعية إلى التمرد»، (دار الساقي ـــ ترجمة جمال شحيّد ـــــ 2019)، والمفارقة أنه محكم لدرجة يصعب التمرد عليها أو ضدّها. إنه كتاب يجب أن يقرأ على طريقة غرو نفسه، بالمشي أثناء القراءة، أو على الأقل بعدها. كتاب (صدر بالفرنسية عام 2017) يدفع صاحبه القارئ إلى العصيان وربما إلى المشي أيضاً. مثلما يُحدث المشي أصواتاً يبتلعها الفراغ، تحدث قراءة هذا الكتاب في مساحة معزولة في الرأس. يطرق المتفلسف الفرنسي هذه المساحة، فيسمع أصوات أولئك الحكام الذين يقبضون رواتب فاحشة، وأصوات أولئك الرياضيين الذين جمعوا الملايين. وبضمير مرتاح يردّدون قائلين: «لم أطلب هذه الأجور الباهظة، لقد اقترحت علي، ويستحسن أن أحصل عليها». يسمعهم يردّدون: «أرجوكم أن تقولوا للعمال المستغلين إلى أقصى الحدود إنهم يستحقون أجورهم وإنهم يقبضون رواتب مزرية لأن طينتهم دون طينة سائر البشر». لهذه المساحة عنوان كبير: قبلنا بما لا يمكن القبول به. وهو يمشي طوال الوقت، بين سطوره، خلف الحقيقة، لكنه يعرف أيضاً أن الحقيقة جينالوجية، وأنها تجري خلفه أيضاً. لا يمكنه التوقف لأنها ستتوقف أيضاً.


من بين ما قبلنا به أيضاً، التردي التدريجي لبيئتنا. الهواء والتربة ومنتجاتها والنباتات: كلها صارت ملوثة وقذرة حتى الاختناق. ولكن الطبيعة عرفت منذ القدم بقدرتها على التجدد وتكرار وضعها السابق. ولأنه مشاء، ولا يقصد بهذا مشائياً في الفلسفة، إنما شخص يمشي، وتمشي أفكاره معه وحوله، يعرف غرو أن المنتجات الثقافية تتهالك وتهرم وتموت على عكس الطبيعة التي لا تعرف إلا ربيعاً رئيسياً. يتنبأ بإيجابية مبالغ فيها بأن كل شيء يعود من جديد ويتكرر. وهذه معاودة أزلية للذات وانطلاقة جديدة لا تنتهي، وظهور سحري متجدد للأشكال نفسها. يتنبأ بهذا لأنه مأخوذ بتأثيرات فوكو، ومن خلفها تأثيرات نيتشه بالعود الأبدي. لكن ذلك لا يعفيه من إعجاب واضح بفلاسفة المشي الآخرين. ففي كتابه، تارةً يعود إلى كانط، وتحديداً إلى التمييز الذي طرحه بين التعليم والانضباط، وطوراً إلى آنا أرندت.
ينبه إلى أنه، في الإطار التربوي، التعليم هو تعلم الاستقلالية، والحصول على محاكمة نقدية، والإتقان الحصيف للمعارف الأساسية، لا حصراً بجزء سلبي من معلومات يجب أن نكون قادرين على تكرارها. وكذلك، يغوص في حادثة أيخمان 1961. يلاحظ أن اختيار أيخمان لوظيفته هو تعبير عن حقد فظيع للسامية. النتيجة الأولى لهذه الأبلسة تكمن في تكاثف القتامة الأخلاقية في شخصيته. ليس بوسعنا إلا أن نتمنى الحكم عليه بالإعدام، ولكننا نضيف إلى الحكم وظيفة قصوى هي التصفية. معاقبته تعني أننا نزيله عن وجه الأرض لتخليص البشرية من مخلوق شيطاني. وفي الآن نفسه، يتجنب هذا التركيز على فرد ما، محاكمة منظومة معينة ويحجب سلسلة التواطؤات.
الترجمة ليست سهلة، وثمة فوارق منهجية بين التمرد والعصيان والإذعان. لكن غرو، في نصه الفرنسي، يبذل جهداً ألسنياً كبيراً في تفكيك المعاني، بحيث تصير الترجمة مكتفية بالنصوص الأصلية. في فصل «من الإذعان إلى التمرد»، يقول غرو إن الإذعان الذي يتحدث عنه هو طاعة إكراهية خالصة: نطيع من يحمل في يديه السلاح والسوط، والقدرة على التحكم بالوظيفة، بل بالحياة والموت. أي إننا نطيع رب العمل ورئيس العمال والمتعامل مع النازيين في المعتقلات والمدير الإداري والرئيس. يستلهم من نيتشه مجدداً: «إني أذعن أي أني سجين تتحكم بي علاقة قوة تخضع وترضخ وتستلب، بالمعنى الحصري للكلمة». ينتقل من حرب شخصية، إلى حرب طويلة، لأنه يمشي خلف العصيان، ويحاول الوصول إلى إجابة واضحة: لماذا لا يتمرد الناس. وربما لذلك، يبدو مروره على هوبز مفصلياً في كتابه. تلك الفكرة العظيمة التي يتحدث عنها هوبز، عن «الحرب التي يشنها الجميع على الجميع». لقد تخلصنا، حسب غرو، من حالة البؤس هذه بميثاق اجتماعي، أي بقرار عقلاني يدعو إلى العيش المشترك، وإلى إقامة سلطة وحيدة ذات صوت واحد، وإلى الانخراط الشامل في احترام القوانين المشتركة. يعتبر غرو أن هذا هو «التوصيف العقلاني» لإنتاج «الوحدة الاجتماعية»، أي الانتقال من الفوضى إلى النظام، ومن هنا تولد الدولة.
الفكر التمحيصي والعمل النقدي هما اللذان يدفعاننا إلى العصيان


هناك ما يحدث داخل النظام وهناك ما يحدث خارجه أيضاً. في حديثه عن «ابنة أوديب»، يخرج غرو بخلاصاته الخاصة. ثمة نهار وثمة ليل. وهناك الرجل وهناك المرأة، الخارج والداخل، العام والخاص. هناك من جهة نهار القرارات والحسابات والتمايزات. ومن جهة أخرى، هناك الليل الحار والأسود للموت والواجب. وتكون اللحظة المأساوية عندما يتوازن الليل والنهار في التعارض والتناقض، بدلاً من التعاقب، وعندما تشطب قطع من الليل والنهار وتجرحه، وعندما تخترق شفرات من النهار جسد الليل. هذه دعوات مبطنة للعصيان، فالفكر التمحيصي والعمل النقدي هما اللذان يدفعاننا إلى العصيان. ودائماً، حسب غرو، الذات التي لا تفوّض والتي لا تدفع إلى العصيان ليست ملاذاً للسيادة. إنها اثنان في واحد كما كتبت آنا أرندت، إنها «علاقة بالذات»، كما قال ميشال فوكو، إنه ولع الاكتشاف الفريد بأن نكون في خدمة الآخرين، لا لتمثّل البشرية بل للدفاع عنها. الدفاع فكرة إنسانية من خلال الاحتجاجات، وأنواع الرفض الصريحة، وأنواع الاستنكار، والعصيانات العملية. ما يدعو إليه غرو، هو أن ينعتق من أفكاره، أن يعصي أفكاره أيضاً. أن تكون الذات بوابة للخروج من الذات: المحطة الأولى للعصيان.