«...وأمس مات واحدخبا وعاد وهجه
كان يرى بحيرة من كرز
حريقة من الضياء موعدا
خبا وعاد وهجه
من الرماد والدجى
تأججا»
(أدونيس ــ «البعث والرماد»)


«إلى شعراء سوريا: تعالوا نشيّد لأمتنا قصوراً في الحب، والحكمة والجمال،
والأمل بمواد تاريخ أمتنا السورية، ومواهبها، وفلسفات أساطيرها.
تعالوا نأخذ بنظرة إلى الحياة والكون والفن
نقدر على ضوئها أن نبعث حقيقتنا من مرقدها».
(أنطون سعادة ــ الصراع الفكري في الأدب السوري)



هناك قصة شهيرة رواها أنطون سعادة قبل 76 عاماً في كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» عن لقائه الأول بسعيد عقل. كان الشاعر اللبناني في بداية انتشاره، حين قابل «الزعيم»، مع أشخاص آخرين، في منفذية الحزب السوري القومي الاجتماعي في زحلة. كان ذلك عام 1935، بعد أشهر من صدور «بنت يفتاح» المسرحية الشعرية التي يعود لها الفضل في الشهرة الأوّلية لعقل. كان سعادة قد قرأ «بنت يفتاح» وأعجب بشاعريته، لكنه لم يستسغ موضوع المسرحية لكون أحداثها مستمدة من النصوص التوارتية. فأحداث المسرحية مثلما يوحي اسمها، تدور حول القاضي الجلعادي يفتاح (Jephthah) الذي قدّم ابنته ذبيحةً للإله، وهي القصة التي غالباً ما تُعدّ الموازي اليهودي لأسطورة آغاممنون، البطل الإغريقي الذي قدّم ابنته إيفيجينيا قرباناً للآلهة. رأى سعادة أن عمل عقل «يخدم موضوعاً غريباً عن المواضيع السورية»، وسأله لذلك في زحلة، بعدما مدح شاعريته: «هل لم تجد في تاريخ سوريا من روائع المظاهر والمكنونات النفسية التاريخية ما يستهويك لاستخراج كنوزها؟». ودعاه في حينه إلى قراءة أي دور من أدوار تاريخ سوريا القديم فيتمكن من «ربط قضايا سوريا القديمة بقضاياها الجديدة، وإيجاد موصل الاستمرار الفلسفي بين القديم السوري والجديد». لبّى عقل رغبة سعادة الذي وصله خبر في أوائل 1938، مفاده أن الشاعر يعمل على مسرحية شعرية عنوانها «قدموس» وأنه يريد مقابلته كي يتلو بعض مقاطعها عليه. لكن ظنّ سعادة سرعان ما خاب حين وجد أن المؤلف «حاول أن يصبغ الحقائق التاريخية والأساطير التقليدية بصبغة محلية ضيقة، فأساء إلى الأساطير وإلى الواقع التاريخي»، ومن المرجح أن عمل عقل اتّخذ هذا المنحى بعد خلافه الشهير مع الحزب.



تمثل هذه الحكاية مدخلاً لفهم رؤية سعادة للدور الذي على الأدب أن يؤديه. في نظره لا فائدة من أدب لا يخدم العقيدة القومية الاجتماعية، وهو ما ينسجم مع المبدأ السابع من المبادئ الأساسية للحزب (غير تلك الإصلاحية): «تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي». من هنا، مثّل التراث المشترك لشعوب سوريا الطبيعية هاجساً لسعادة الذي أولى اهتماماً كبيراً للتاريخ الثقافي للهلال الخصيب، وكان أحد النماذج الأوروبية الملهمة بالنسبة له في هذا الإطار مؤلف شيلر «حرب الثلاثين سنة» ذات «الموضوع الألماني الصميم» والذي طمح إلى مؤلف سوري شبيه به. وفي هذا السياق ولهذه الغاية، لعبت الميثولوجيا دوراً كبيراً في فكر سعادة الذي شدد على أهمية عودة الأدب إلى أساطير سوريا وفلسفاتها لبعث النهضة التي كان يعتبرها مطلوبة في الفكر السوري. وهذا الاتجاه ليس غريباً على النظريات القومية التي اقترنت غالباً بالميثولوجيا في إطار نزوعها إلى الرومانسية والمثالية. فإلى جانب الدور الذي يؤديه تمجيد التاريخ والجذور في ولادة الوعي القومي، تحجز الأساطير موقعاً لا يُستهان به بشحن هذا الوعي ودفعه إلى الإعجاب بالذات أولاً، وإلى تشكيل رومانسي للهوية، إلى جانب عوامل أخرى (التاريخية، الجغرافية...) في تشكيل هذه الهوية. يمكن أن نذكر في هذا الإطار، ميشيل عفلق الذي بدأ نشاطه في محاولات أدبية، وكان متأثراً بالنظريات الألمانية عن القومية الرومانسية والمثالية، فكتب مسرحية «موت السندباد» التي استمدها من الأسطورة العربية الشهيرة، موظفاً فكرة الفداء في موت السندباد في الحديث عن بعث الحياة في «الأمة العربية».
ولعلّ إعجاب القوميين الاجتماعيين بالميثولوجيا والتمسك بمعانيها ورموزها، هو أحد العناصر الدالة على المثالية الفلسفية للعقيدة، على الرغم من اجتراح سعادة لمصطلح «المدرحية» للتعبير عن الانتماء الفلسفي للقومية الاجتماعية. ولعلّ هذا الاهتمام بالميثولوجيا المشتركة يحلّ، بمعنى ما، مكان العامل «العرقي» الموحد لشعوب الهلال الخصيب. فمعروفٌ أن عقيدة سعادة لم تقم على أساسٍ سلالي، بل هو رفض مبدأ السلالية كلياً بدءاً من إعلان ذلك في «المبادئ الأساسية» وصولاً إلى «نشوء الأمم» الذي أفرد مساحةً كبرى لتوضيح أن ما يجمع «أبناء سوريا» ليس مرتبطاً بأي شكل بأصلٍ بيولوجي واحد. في هذا الكتاب أكد سعادة أن «جوهر الأمة ليس الاشتراك بصفة جسدية واحدة وإنما الاشتراك في الحياة في قطر معيّن. فإذا كانت السلالة واقعاً فيزيائياً فإن الأمة واقع اجتماعي، وشتان بين هذا وذاك».
وفي كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري»، ركز سعادة على على الأساطير السورية، فتحدث عن قصيدة «طافون» (من اكتشافات رأس شمرا 1929) التي سبقت إلياذة هوميروس بمئات السنين وتعتبر البداية الفعلية للشعر الكلاسيكي. وفي السياق نفسه، رأى سعادة أن أهم الأساطير اليونانية، وأهم قصص اليهود الأساسية مأخوذ عن أصول سوريّة. وقال سعادة إن المؤرخين والدارسين مجّدوا اليونان من أجل عظمة أساطيرهم التي يعود معظمها إلى سوريا. فعلى سبيل المثال، حكاية انتقام الآلهة عناة من الإله معط بالمنجل وذر بقاياه في الحقول؛ لينبت زرعاً، يؤكد سعادة، أنها وأساطير كثيرة غيرها منقولة بحذافيرها تقريباً «والعالم يعيّرنا بأننا نحن الذين نقلنا عن الإغريق، والعالم مديون لنا بفلسفاتنا مديونون لليونان فقط».
توقف سعادة عند عدد من الأساطير، أبرزها أسطورة تموز، القصة الأشهر في تراث بلاد ما بين النهرين والتي يعادلها في الموروث الفينيقي أسطورة أدونيس. تموز إله الخصب، يموت في طقس تراجيدي تعاملت معه الآداب السومرية والبابلية بطقوس تعزية خاصة لحبيبته إنانة لدى السومريين (عشتروت الفينيقية، أفروديت الإغريقية). أدونيس (أدون تعني الرب/ السيد، الياء للمتكلم والسين إضافة إغريقية للاسم) قتله خنزير بري، قبل أن تبحث عشتروت عنه وتتمكن من إحيائه ذات ربيع. كان أهالي بيبلوس يحيون طقوس الحزن والبعث في كل عام، قبل تفتّح شقائق النعمان التي أصبحت ترمز للحياة الطالعة من دماء الإله المقتول.
كما كتب عن أسطورة القتال بين معط وعلين، إذ إن الأول يرمز إلى الطبيعة المثمرة، فيما علين يمتلك الغيث والريح. وحين قتل الأول الثاني، جفت الأرض وأصبحت الأسود تطوف بالمدن، قبل أن تنهض الإلهة عناة (نسخة أكثر قدماً من إنانة وعشتار)، أخت إله الغيث المقتول وتنتقم من معط فتقتله بالمنجل ثم تحرقه وتنثر بقية جثته في الحقول، فيتحول إلى الإنتاج أو الحصاد الذي يسقط تحت المنجل ليعطي الخبز للإنسانية؛ عندئذٍ يبعث علين ويعود المطر إلى السقوط.
بالنسبة لسعادة في مثل هذا الأدب، «الخارج من صميم الحياة السورية»، المؤسس على النظرة الجديدة الأصلية إلى الحياة والكون والفن، نجد التجديد النفسي والأدبي والفني «الذي نشتاق ونحنُّ إليه بكل جوارحنا». ويقول: «إلى مقام الآلهة السورية يجب على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا فيعودوا من سياحاتهم حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا، التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين تسمو على كل ما عرف ويُعرف من قضايا الفكر والشعور».
انطلاقاً من هنا، وفي دراسة بعنوان أثر أنطون سعاده في تيار الحداثة الشعرية، ينقل الباحث حسن سيد هاشمي عن الناقد الأدبي منيف موسى قوله إن مسألة الأساطير هي من أهم ما جاء عند سعادة في المواضيع الأدبية، وإن دعوته إلى استثمار خيرات الأساطير «فكراً وروحاً» كانت عاملاً مهماً في ظهور ما يسمى بـ«الشعر التموزي». مصطلح «الشعراء التموزيون» ابتكره الناقد والروائي الراحل جبرا ابراهيم جبرا وأطلقه على أدونيس ويوسف الخال وبدر شاكر السيّاب وخليل حاوي وجبرا نفسه، في إشارة إلى ارتباط أعمال هؤلاء بفكرة البعث في أسطورة «تموز وعشتار». ويلفت الباحث إلى أن صورة سعادة لدى هؤلاء الشعراء كما لدى القوميين بصورةٍ عامة، تتماهى إلى حدٍّ بعيد مع صورة أدونيس/ تموز، سقراط والمسيح؛ أي صورة الفداء والتضحية من أجل هدفٍ أسمى.
لا فائدة من أدب لا يخدم العقيدة القومية الاجتماعية


هؤلاء الشعراء لبّوا، قاصدين ذلك أم لم يقصدوا، دعوة سعادة الذي اعتبر أنه «متى أخذ الأدباء السوريون، الموهوبون، المدركون سمو النظرة السورية القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن يطلعون على هذه الكنوز الروحية الثمينة، ازدادوا يقيناً بحقيقة نظرتهم وعظمة أسبابها، وبقوة الموحيات الفلسفية والفنية الأصلية في طبيعة أمتهم، التي يؤهلهم فهمها لإنشاء أدب فخم، جميل، خالد». كان خليل حاوي على سبيل المثال يرى أن الأساطير المتمثلة في التراث الشعبي «تعبر عن نفسية شعبنا وتطورها خلال التاريخ». وقد كتب حاوي في إحدى قصائده: يا إله الخصب/ يا بعلاً يفضّ التربة العاقر/ يا شمس الحصيد/ يا إلهاً ينفضّ القبر ويا فصحاً مجيد/ أنت يا تموز/ يا شمس الحصيد نجّنا/ نجّ عروق الأرض من عقم دهاها/ ودهانا/ أدفئ الموتى الحزانى. وكتب في قصيدة أخرى: أدونيس يرتمي في الليل / شلواً غاله الوحشُ الجموح / والمسيح / ذنبه أن الذرى البيضاء في عينيه / يعيا دونها الفكر الكسيح.
الأكيد أن الميثولوجيا «رطّبت» العقيدة وعززت عاطفة القوميين الاجتماعيين تجاهها، وأضفت بعداً رومانسياً وجمالياً على القناعة السياسية والحزبية. فلا ننسى أن مفهوم الجمال يقع ضمن مثلث القيم الإغريقي «الحق، الخير والجمال» الذي كان بالنسبة لسعادة أساساً لقضيته (المحاضرة الأولى من المحاضرات العشر). فلهدف استنهاض العزيمة لبناء الأمة، ربما استطاعت هذه الأساطير أن ترمز إلى وحدة الجمال بين الأرض والإنسان الباحث دوماً عنه. الأمر الذي عبّر عنه أدونيس في إحدى أشهر قصائده بالقول: قالت الأرض في جذوري أبادُ/ حنين، وكلُّ نبضي سؤالُ/ بيَ جوعٌ إلى الجمال، ومن صدريَ/ كان الهوى، وكان الجمالُ.