عندما يكون السفر بحد ذاته حلماً لفرقة موسيقية سورية في الحرب، يغدو تحقق الحلم ذكرى فريدة لا تنسى، لا سيما إذا كانت الرحلة «متكاملة»، صحياً وترفيهياً، وبتسهيلات تعفي الفنان من التفكير في أي شيء عدا المهمة التي سافر من أجلها، وهي تمثيل بلده بأفضل مستوى ممكن.بهذا الطموح، استثمر كورال «أطفال أرجوان» السوري، الذي مثل جمعية «أصدقاء الموسيقى» في طرطوس، فرصته الأولى للظهور عالمياً، وهي فرصة وفرتها دولة بيلاروسيا في إطار برنامج التعاون المشترك مع الحكومة السورية، والذي يتيح دعوة أطفال سنويا لقضاء أسابيع في مخيم زوبرونك الصحي الاستجمامي.
يصف قائد ومدرب الكورال المايسترو بشر عيسى هذه الرحلة بالعلامة الفارقة في مسيرة أطفال أرجوان منذ انطلاقة الكورال رسميا عام 2017، حيث تعزّزت ثقتهم بموهبتهم وبكونهم جزءاً من كورال هواة يسير في طريق الاحتراف. يقول: «كان برنامج المخيم غنيا بنشاطات تغذي في الأطفال تربية جمالية يحتاجها كل فنان ليعطي بشكل أكثر عمقا، فإلى جانب الغابة ومحيطها الساحر وما تحويه من مرافق صحية ورياضية متكاملة، تم تنظيم رحلات إلى قلاع أثرية ومتحف وأوبرا مينسك. وكنا نغني في كل مكان نذهب إليه، ولقيت حفلاتنا الثلاث تفاعلاً جميلاً من الأطفال من بيلاروسيا وجنسيات أخرى من آسيا وأوروبا وأميركا، كما كانت فرصة مهمة للاطلاع على عروض الكورالات الأخرى الأربعة المدعوة معنا من سوريا، وليطلعوا في المقابل على ما نقوم به من جهد متميز في مجال الغناء الجماعي الموزع هارمونيا على ثلاثة أصوات، الآلتو والميتزو سوبرانو والسوبرانو».
وجاءت دعوة الكورالات إلى «مخيم زوبرونك» بعد استضافة المخيم قبل نحو شهرين مخيمان للأطفال السوريين الأيتام، منهم من فقد أهله في الحرب وتعرض لتجربة النزوح، في حين خصص المخيم الثالث لأصحاب المواهب في العزف والغناء، ما بلغ مجموعه نحو 500 طفل سوري هذا العام في إطار برنامج التعاون المشترك بين البلدين.
ويضيف عيسى: «كان تحديد مدة المخيم بأسبوعين أمراً مدروساً بعناية، وكان المشرفون مثالاً للتفاني في العمل، حيث تعود الأطفال خلال هذه الفترة على نظام حازم للغاية في تفاصيله الصحية والترفيهية على السواء، وتعلموا الاعتماد على أنفسهم بعيدا عن أهلهم، وساعدتهم الكثير من المواقف والتجارب الفريدة من نوعها على صقل شخصياتهم والانفتاح أكثر على الآخرين. ورغم أنها لم تكن تجربة سهلة أبدا بالنسبة لي ولمديرة الكورال كمرافقين وحيدين لـ 38 طفلاً، إلا أن ما كان يهمنا في الأمر هو رؤية الدهشة والسعادة على وجوههم، وإحساسهم بالقيمة الجمالية في كل ما يرونه ويمارسونه في ذلك المكان الغني بالتفاصيل الاستثنائية، والأهم من ذلك، إحساسهم بقيمة ما يفعلونه على المستوى الفني والشخصي، وتمثيلهم الراقي لكورال أرجوان ولمدينتهم طرطوس وبلدهم التي تستحق الكثير من الإضاءة عليها بكل الوسائل، ومنها الكلمة والموسيقى».
وكعادة أطفال «أرجوان»، كانت الأغاني بتسع لغات منتقاة بعناية لتمثل ثقافات مختلفة من إيطاليا والبرازيل وأميركا وأفريقيا، تجمع بينها معاني الصداقة والحب والسلام والطفولة والطبيعة، فضلا عن وصلة على مقام الحجاز ضمت أغان من تراث سوريا والمنطقة (بالي معاك والحلوة دي والبلبل ناغى)، ووصلة على مقامي البيات والرصد (دلعونة، وهوارة، وزرعنا تلالك، وبالمجد معمرها) وأغنية (غنوا معنا لطفولتنا) التي أدتها الكورالات السورية الخمسة في حفل افتتاح المخيم، وصولا إلى أغنية (كوبالينكا) من فولكلور بيلاروسيا، والتي استمع إليها الجمهور البيلاروسي لأول مرة من أطفال أرجوان بتوزيع هارموني جديد أثار الإعجاب، بمرافقة مجموعة من أطفال الكورال الموهوبين في العزف على البيانو والعود والفلوت والكمان والطبل والغيتار.
يمثل الصغار الجوقة الصغرى في كورال «أرجوان» الذي يضم عشرات الهواة ممن تراوح أعمارهم بين 18 و50 عاماً، والذي حقق مشاركته العالمية الأولى في أيار الماضي، عبر تسجيل مرئي صوتي إلى المهرجان العالمي للغناء الكورالي في مدينة تسالونيكي اليونانية، نظراً لصعوبة الحصول على تأشيرات السفر.
توضح مديرة الكورال وعازفة البيانو شذى طعمة أنّه «كان الأمر مختلفاً بالنسبة للأطفال، إذ كانت هناك دعوة موجهة إليهم من الجانب البيلاروسي، وقام الجانب السوري بتقديم تسهيلات تمثلت في جواز السفر الدبلوماسي الذي استخدمناه في الخروج والدخول وسلمناه لدى وصولنا، ويمكن أن نستخدمه في أي سفر قادم كفرقة موسيقية». وتضيف: «هدف البرنامج ليس تقوية الروابط بين بلدين فحسب، بل الرغبة في تعويض الأطفال السوريين الذين تأثروا بالحرب مباشرة أو عن بعد. كان مخيماً يعمه النظام الشديد والاسترخاء والطعام الصحي والترفيه، والرغبة بالتعارف كانت متبادلة، فرغم اختلاف اللغات استطاع الاطفال تكوين صداقات خلال الانشطة اليومية، خصوصا خلال نشاط الرقص، وخلال الحفلات لمسنا فضولاً واضحاً من الحضور البيلاروسي في التعرف على سوريا، وأثار الفيديو، الذي عرضناه كمرافقة لإحدى الوصلات، إعجاب الحضور بمعالم الطبيعة السورية، والمعلومات التي قدمناها حول عدد السكان والمحافظات وبعض كلمات لغتنا».
وعن تجربتهم المتفرّدة، يتحدّث بعض أطفال الكورال بشغف عن الكثير من التفاصيل التي لن ينسوها. تقول لين زينو: «كان مجرد انتقالي من قارة إلى أخرى أمرا يثير الحماس. كانت النشاطات اليومية مهمة للغاية، أشعرتنا بأهمية تغيير نمط حياتنا الصحي إلى الأفضل. وجودنا معا بعيدا عن أهلنا ساعد في تقوية علاقاتنا ببعضنا ككورال، فأصبحت نعرف عن بعضنا ما الذي يفرحنا أو يحزننا، واظهرنا كثيرا من الحرص على بعضنا خلال هذه الفترة». أما سما عيسى، فتشير إلى أنّ «أهم ما اختبرناه قدرتنا على الاعتماد على النفس. فأدق التفاصيل التي كنا نترك الاهتمام بها لأهلنا أصبحت من أولوياتنا. كان المشرفون يتابعوننا صحيا بدرجة كبيرة، أحيانا كنا نشعر ببعض المبالغة في ذلك، لكنه في النهاية لمصلحتنا. وأكثر ما أشعرنا بالسعادة هو ما قدمناه نحن والكورالات السورية كان تصفيقهم وتراقصهم مع إيقاعات أغانينا أمرا مبهجا». وكانت رؤية الدلافين في القرية المائية وتفاعل الأطفال مع أغاني أرجوان أكبر سبب للفرح بالنسبة لعليا أحمد، حيث تقول: «كانت نزهة جميلة، ورغم اشتياقي لأهلي، شعرت في نهاية المخيم أنني أود البقاء. جميعنا يتمنى تكرار هذه التجربة».