القاهرة | لا يمكن فهم حالة الحزن التي شملت قطاعات كبيرة من المثقفين العرب، لا سيما الشباب مع الإعلان عن رحيل المفكر والكاتب المصري جلال أمين (1935 ــ 2018) إلا انطلاقاً من أمرين: الأول هو قدرة الراحل على التورط في السجال، إذ لم يفقد أبداً رغبته في الاشتباك مع القضايا الراهنة، سواء كان مصدرها النظام السياسي، أو تمرده المتواصل الذي قاده لبناء تصورات مغايرة عن شخصيات تمتعت في ثقافتنا العربية بقداسة وظلت تحظى بـ «حصانة» حالت دون نقد أو مراجعة منجزها. أما الأمر الثاني، فيرجع إلى السمات الأسلوبية الفذة التي تمتعت بها كتاباته حيث وقف دائماً على الخيط الرفيع بين «الشعبوية» و«الشعبية»، وكانت السخرية واحدة من أبرز أدواته في مخاطبة الناس.الأكيد أن «بساطة التعبير وعمق الفهم» كانا الرهان الأول لصاحب «رحيق العمر». منذ كتاباته في سبعينيات القرن الماضي، اختار أن يقدم تحليلات اقتصادية بلغة خالية من المصطلحات الصعبة تستهدف القارئ العام. لذلك لمع اسمه على الصعيد العربي، لا سيما أن أطروحاته انطلقت دوماً من خلفية قومية تعود إلى انتمائه الأول للتيارات البعثية، فضلاً عن انشغاله بقضية «التبعية» التي كانت هاجساً رئيساً لدى الجميع في تلك السنوات.
ورغم أنّ الاقتصاد كان تخصصه الأصيل، إلا أنّ شعبيته جاءت من انشغاله الرئيس بقضية «الحراك الاجتماعي» التي قدم فيها مساهمات ذكية جمعت بين حس المؤرخ ولغة الأديب وحساسية عالم الاجتماع وقدرات عالم الاقتصاد في التحليل الإحصائي. مميزات لم تكن لدى مجايليه من المفكرين الذين اتسمت أعمالهم بـ «النخبوية». داخل مصر، برز أمين بكتابه «قصة ديون مصر الخارجية - من عصر محمد علي إلى اليوم» (1987) الذي لفت إليه نظر الكبار في مدارس التحليل الاقتصادي أمثال اسماعيل صبري عبد الله، وفؤاد مرسي، وعادل حسين، ثم تأكد حضوره العام مع كتابه «الدولة الرخوة في مصر» الذي نشره أوائل التسعينيات وسجّل بداية خروجه من الكتابة الأكاديمية إلى الفضاء العام.
اعتباراً من نهاية التسعينيات، عرفت أعماله شعبية كبيرة بفضل كتابه «ماذا حدث للمصريين» (1998) الذي صدر في طبعات ولغات عدة، وما زال واحداً من أكثر الكتب مبيعاً. انطلاقاً من مقالات بدأ نشرها في مجلة «الهلال»، شرح أمين طبيعة التغير الاجتماعي والثقافي في حياة المصريين خلال الفترة من 1945 إلى 1995 وسعى لفهم أسبابها بعين الراصد المتأمل. وهو ما تكرر في كتابه «وصف مصر في نهاية القرن العشرين» الذي لم يحظ بالانتشار نفسه، على عكس كتابه «المثقفون العرب وإسرائيل» الذي صدر أيضاً عام 1998 وقام فيه بتعرية خطاب التطبيع الثقافي وهرولة بعض المثقفين لتبرير عمليات التسوية مع الكيان الصهيوني.
أطروحاته انطلقت دوماً من خلفية قومية، فضلاً عن انشغاله بقضية «التبعية»


مع تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001، بدا انشغال أمين واضحاً بقضية العولمة. تطورت كتاباته باتجاه التركيز على شكل علاقة العرب بالغرب، وكاد أن يحصرها في إطار نظريات المؤامرة. وهو ما تجلّى في مؤلفات متتابعة بدأت بـ «العولمة» (1999) ثم «العولمة والتنمية العربية» و«عولمة القهر» (2002) و«عصر الجماهير الغفيرة» (2003)، و«عصر التشهير بالعرب والمسلمين» (2003)، وكتاب «خرافة التقدم والتأخر» (2005) الذي أثار شكوكاً كثيرة في صحة الاعتقاد بفكرة التقدم والتخلف، وفيما إذا كان جائزاً وصف دول أو أمم بأنها متقدمة، وأخرى بأنها متخلفة أو متأخرة، فلكلّ أمة معيارها في التصنيف.
ندد أمين في كتابه «التنوير الزائف» (1999) بما أسماه «التغريب»، منتقداً تياراً من المثقفين العرب يبدأ بطه حسين ويصل إلى جابر عصفور، يرى أن التقدم لا بدّ من أن ينطلق من الاقتداء بالتنوير الغربي، وهي أطروحات دفعت المفكر الراحل جورج طرابيشي إلى اعتبار أنّ أمين في كتاباته يعطي حالة مثالية لما أسماه «المثقفون العرب المرضى» بالغرب. واستسلم آخرون داخل النخبة المصرية لسهولة تصنيفه ضمن تيارات الإسلام الحضاري التي أجرت ما سمي بـ «الترحال الثقافي»، وتحولت بأفكارها من اليسار إلى اليمين. فكرة راجت بعد مواقف اتخذها أمين بشأن قضايا حرية التعبير الأدبي. إذ انتقد مثلاً قيام الناقدة والباحثة سامية محرز بتدريس كتاب «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري لطلاب الجامعة الأميركية بزعم أنه «كتاب رديء» وهاجم أفكار طه حسين في كتاب «في الشعر الجاهلي»، وأصر على أنّ التاريخ الأدبي طمر إنجاز منتقديه. ومع شيوع ما يسمى بروايات «البيست سيللر»، رأى بعضهم أنّ جلال أمين انحاز دائماً لرواية ضعيفة القيمة. وبفضل شعبيته وتأثير مقالاته، أسهم في ارتفاع مبيعات روايات اتسمت بـ «الشعبوية». موقف أعاد بعضهم إنتاجه في الانتقادات التي وجهت لجائزة «بوكر» العربية التي اختارته رئيساً للجنة التحكيم عام 2013.
منذ 2007، عاد أمين ليشغل الحياة الثقافية العربية ليس استناداً إلى نقد طه حسين وتلاميذه أو انطلاقاً من أطروحاته الفكرية، إنما بسبب مذكراته التي توالت في أجزاء عدة هي: «ماذا علمتني الحياة» (دار الشروق) وما جاء بعدها أي «رحيق العمر» (2010)، و«مكتوب على الجبين» (الكرمة ــ 2015). نالت السيرة اهتماماً واسعاً من القراء والنقاد بفضل طابعها الجريء الذي امتد ليشمل العائلة التي خرج منها جلال أمين ومسّت ــ كما فهم بعضهم ــ صورة والده المفكر النهضوي البارز أحمد أمين، أو أمه وأخوته الثمانية والاختلاف في شخصية كل منهم رغم نشوئهم في بيئة واحدة. لعل الجانب الأهم الذي يفسّر شعبية تلك السيرة، إلى جانب أسلوبيتها الفذة، تقاطع طابعها السردي الحكائي مع شيوع الرواية العربية أخيراً وارتياح العديد من القراء لتصنيفها كسردية روائية، فضلاً عما راج حولها بشأن إصرارها على كسر «الأبوية» والاحتفال بأنماط الضعف الإنساني التي تشيع داخلها، ما جعلها تساعد على خلق صورة أخرى لسيرة مثقف عضوي نزع عن نفسه فكرة «الكمال».