على وجهه تعب نبيل، وفي عينيه حزن وإجهاد دائم، كأنه لم ينم منذ أشهر. مسيح يحمل هماً، لا يخصه وحده، وإنما يخص الآخرين، شعاره الدائم «سنذهب بعيداً». هكذا صعد محمد صلاح، وهكذا صنع أسطورته الخاصة. في لحظات الهزيمة، تحتاج الشعوب - ربما لتعلن عن وجودها - أن تصنع أساطيرها الخاصة، وقد تكون بعض هذه الأساطير مجرّد «ثماثيل من عجوة» لا تستطيع الصمود طويلاً، سرعان ما تختفي أو تغيب. البطل الشعبي، قد يكون مفتول العضلات، أو جريئاً ومقتحماً يعبر عنها. هكذا مثلاً أصبح أبو زيد الهلالي أسطورة، وأيضاً تحول أدهم الشرقاوي من قاطع طريق إلى لص يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، ويحارب الاحتلال الإنكليزي والسلطة التي تدافع عنه. وتحول محمود أمين سليمان من لصّ وقاتل في ستينيات القرن الماضي، إلى «سعيد مهران» الباحث عن العدل، المناضل ضد «الكلاب».
أصبح محمد صلاح أسطورة هذه اللحظة في مصر، هو ليس لصاً، ولا مفتول العضلات، لا يحمل ادّعاءات كبرى بتغيير العالم، هو أشبه بالبطل «اللامنتمي» لا بالمعنى السياسي، لكن كونه جاء من أحد أندية الظل الصغيرة (المقاولون العرب) لا من الناديين الكبيرين اللذين تنتمي إليهما كتلة جماهيرية كبرى تقترب من 95% من مشجعي كرة القدم. ربما هذا اللانتماء أو الهامش هو ما خدم صلاح الذي التفّت حوله كل الجماهير بمختلف انتماءاتها الكروية. ربما لو خرج صلاح من أحد أندية القمة، لم يكن ليحقق ذلك الحضور الجماهيري الكبير.
على أشهر مقاهي المثقفين في وسط القاهرة، مقهى «زهرة البستان» الشهير، سنجد رسومات غرافيتي متجاورة: نجيب محفوظ، وأم كلثوم، أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم، ومحمد صلاح. وحده محمد صلاح المعبر في تلك اللحظة عن أشواق تلك الجماهير الصامتة، وأحلامها، بلا ادعاء.
بالتأكيد، لم يكن نجاح محمد صلاح استثنائياً. عشرات من المصريين سبقوه إلى الاحتراف، وحققوا نجاحات عديدة، ولكنهم كانوا كالمبتسرين، بلا طموح في التجاوز، تجاوز النجاح. توقفوا عند مراحل معينة، على العكس من صلاح الذي امتلك طموحاً بلا حدود، وجدية بلا ادعاء، مع تواضع وبساطة. ربما هذا ما تكشف عنه نشأته البسيطة في قرية مصرية صغيرة، كان يخرج يومياً من بيته عقب صلاة الفجر، لكي يصل إلى القاهرة للتدريب مع فريقه. يحتاج إلى أكثر من ست وسائل مواصلات، هذا الإصرار هو ما صنعه، بلا وساطات. وربما لهذا اتحد معه الجمهور، اعتبره ابناً من الأبناء. في رحلة احترافه الأوروبية، لم يرفع شعار «جئتكم غازياً» مثل بطل الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال». هاجر إلى الشمال حاملاً تقاليد بيئته، وتراثه، لم يشعر بالخجل من تلك البيئة ولا تقاليدها.
غيّر محمد صلاح من تفكير المصريين، في القرية الصغيرة التي ولد فيها. كان الآباء حريصين على تعليم أبنائهم، على أن يصبح اللعب في المرتبة الثانية، في غير أوقات الدراسة. الآن أصبحت الكرة هي الأساس، ثم التعليم في ما بعد. لم يعد الأباء يعاقبون الأبناء لأنهم يهربون من أجل «ماتش كرة»، فالكرة هي الآن هي وسيلة الترقي الاجتماعي، الذي يمكن أن ينقل العائلة الى مستوى اجتماعي آخر. وهكذا انتشرت في القرى ملاعب الكرة لكي يتدرب بها الصغار، بديلاً من المدرسة. صار محمد صلاح أسطورة، من أساطير الصعود الاجتماعي، من القاع إلى القمة، كما فعلت من قبله أم كلثوم، ونجيب محفوظ، وطه حسين ونجم وأمل دنقل. وأخيراً محمد صلاح الذي وعدنا أن نذهب بعيداً دائماً!