قبل أيام من المونديال السابق في البرازيل عام ٢٠١٤، وفي مباراة تحضيرية أمام سلوفينيا، وقفت التشكيلة الأرجنتينية بأكملها خلف يافطة كُتب عليها بالخط العريض: «جزر المالوين أرجنتينية». كان ذلك بمثابة فتح نار سياسي قبل بداية المونديال من قبل الأرجنتينيين الذين ما انفكوا يطالبون بالسيادة على هذه الجزر الصغيرة التي احتلتها بريطانيا بالقوة منذ فترة ليست بالبعيدة.
اللوحة من تصميم الفنان حسين ناصر الدين (٢٠١٧)

المعركة بين الأمّتين، كانت لتحسم بتفوق الفرقاطات الملكية على الصواريخ المضادة للسفن التي زودت بها فرنسا الأرجنتينيين سراً، لولا أن فتى أرجنتينياً في العقد الثاني من العمر، ولا يتجاوز طوله ١٦٥ سم رد للإنكليز الصاع صاعين في الدور ربع النهائي لمونديال مكسيكو ١٩٨٦. يومها، سجل بيده في غفلة من حكم المباراة التونسي ومساعديه، الهدفَ الأشهر في تاريخ كرة القدم في مرمى العملاق الإنكليزي بيتر شيلتون. الأرجنتينيون الحالمون والكثير من المهووسين بالفتى المسمى مارادونا، رفعوه إلى مستوى الأيقونة، إلى درجة ظهور كنيسة «مارادونية» تنشط في المكسيك حتى اليوم، ويتبعها المريدون بالآلاف. سمّي الهدف الذي أذل «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» بـ «يد الرب».

الإخوة الأعداء
حمل الإنكليز والأرجنتينيون فكرتين مختلفتين تماماً عن كرة القدم، وتحديداً في ثقافة اللعب وأسلوبه. فكرتان لا يجمعهما جامع، لكن بأقدار ستضعهما وجهاً لوجه في محطات كثيرة. في المخيال الأرجنتيني، تحمل كرة القدم طابعاً أسطورياً يشكل فيه ابن الحي الشعبي (pibe) والأرض البور (potrero) ركيزتين لأسلوب قومي في لعب الكرة، كما يشرح الصحافي الفرنسي سيمون بلين على مدونته «قواعد اللعبة». أسطورة ابن الشارع الذي يستمتع بلعب الكرة فوق مساحة بالكاد مؤهلة، وفي حي معدم تضيء على أهمية القيم المرتبطة بالطفولة، كالحيوية والعفوية. الركيزتان مرتبطتان إذن بشكل عضوي، إذ لا يلعب الـ pibe إلا فوق الـ potrero حيث يستعرض مهاراته أمام الجمهور ويبدأ بقطف أول انتصاراته. تعريف «البوتريرو» هو على النقيض تماماً من مدارس كرة القدم الانكليزية التي نظمت اللعبة في بداية القرن العشرين ونشرتها في أنحاء القارة العجوز، حيث التطبيق الكروي يمارس على نطاق أضيق. الأولاد الذين يلعبون في «البوتريرو» الأرجنتيني يتعلمون قيماً مختلفة عما سيتعلمه ليونيل ميسي الطفل مثلاً في أكاديمية برشلونة التي احتضنته وهو في السادسة من عمره. على هذه الأراضي الشاسعة، الحرية هي الكلمة المفتاحية واللاعبون لا يعرفون أي تقليص لها من قبل «المشرفين»، بل يتركون للمخيلة والفانتازيا أن تصل إلى مداها الأقصى. هكذا، يكون الـpotrero جزءاً من الفضاء السوسيولوجي للـ pibe ويسمح بتعريفه في الفضاء الميثولوجي. هذه الأسطرة تشكّلت في مواجهة المهارة والمعرفة الفنية الكروية الإنكليزية. يصف عالم الاجتماع الأرجنتيني إدواردو آرشيتي الكرة الأرجنتينية بأنها نتيجة عملية «شعبوية» أو «مصادرة ناجحة لممارسات، كانت في الأساس، مرتبطة حصراً بهوية فئة اجتماعية معينة». حين كانت الكرة لعبة بريطانية خالصة في بداية القرن العشرين، كان المهاجرون (أغلبهم من الإيطاليين والإسبان) ينزلون بكرات الكاوتشوك ليختلطوا بالسكان المحليين في بيونيس ايرس وكوردوبا وروزاريو وغيرها. نأى البريطانيون بأنفسهم عن هذه العملية «الشعبوية». في الحالتين، صارت الكرة مرتبطة بالهوية في الصميم.

جزر المالوين أو «الفوكلاند»
قبل ١٩٨٦، تمكنت الفلسفتان المختلفتان جذرياً من تمكين كل منتخب من الفوز مرة في المونديال: إنكلترا في مونديال ١٩٦٦ على أرضها، والأرجنتين عام ١٩٧٨ على أرضها أيضاً. لكن على أرض معركة حقيقية ستتلاقى مصائر الأمتين. يتسلم الجنرال غالتييري السلطة في الأرجنتين في فترة صعبة من تاريخ البلاد وحافلة بالقمع الأمني والخطف والرعب خلفاً للطاغية جورج رافاييل فيديلا. يبحث غالتييري عن قضية قومية قد تعيد توحيد الأرجنتينيين، فيدخل في نزاع مع المملكة المتحدة، لتعلن الأرجنتين الحرب في ٢ نيسان (أبريل) ١٩٨٢ من أجل استرجاع السيادة الأرجنتينية على جزر المالوين، الجزر الصغيرة النائية في المحيط الأطلسي الجنوبي. في أيار (مايو) ١٩٨٢، بدأت المعركة البحرية حول الجزر التي استعمرتها إسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة تباعاً: المالوين الملفوحة بالريح والمغطاة بالمطر طيلة السنة صارت تعتبرها الأرجنتين جزءاً من «أرض النار». الحرب وإن استطاعت جزئياً توحيد الأرجنتينيين، إلا أنها أسهمت في إسقاط النظام الحاكم الأرجنتيني بعد أشهر ثلاثة. ربحت مرغريت تاتشر الحرب ليعاد انتخابها عام ١٩٨٣ رئيسة لوزراء بريطانيا ولتعيد تثبيت سيادة مملكتها على حفنة من الجزر التي تسكنها الأغنام وحفنة من البشر «غريبي الأطوار».

مونديال ١٩٨٢: خيبة الأمل
في ١٣ حزيران (يونيو) ١٩٨٢، ينطلق المونديال الـ 12 في إسبانيا التي تخلصت من فرانكو للتو، والأول لمارادونا. الأمّة الأرجنتينية القلقة تأخذ جرعة من الأمل في رؤية الصبي الموهوب، الذي يحمل سمات «جالب الحظ» والمخلص. يعرف الأرجنتينيون سيرة الفتى عن ظهر قلب: كان مارادونا يثبت الكرة في وسط مطبخ البيت تماماً، ويقذفها لتخرج من شباك صغير في الجدار إلى الخارج. سمعت الأسرة في ليلة ممطرة صريخاً واستغاثة. خرج الصبي خلسة ليسترجع الكرة، فسقط وإياها في بئر مهجورة خلف الدار، ليتم إنقاذه وهو على شفير الموت. كان مارادونا يرمز بشكل مثالي لأسطورة الـ pibe بشعره المسدل فوق أكتافه وهيئته الطفولية. كأن التشكيلة الأرجنتينية في ذلك المونديال كانت تحمل وزر وتبعات حرب المالوين: كان على الفتى الذي يبلغ ٢٢ عاماً أن يحمل فوق كتفيه بلداً أخفت فيه الطغمة الحاكمة منذ عقود أكثر من ثلاثين ألف مفقود (desaparecidos) من طلاب ويساريين وشعراء ومثقفين، ومليوناً ونصف المليون من المنفيين في بلاد كان تعداد سكانها حوالى ٣٠ مليوناً في ذلك الوقت، إضافة إلى أكثر من ٥٠٠ طفل تم أخذهم كرهائن وتبنيهم من أسر مرتبطة بالنظام. لم يقدر مارادونا أن يمنع خسارة بلاده أمام إيطاليا الصلبة في الدور الثاني للتصفيات. رجع ورفاقه بخفي حُنين إلى بلد يلملم جراحه بعد سقوط غالتييري، بقيام انتخابات ديمقراطية وعلاقات أفضل مع الجيران، بخاصة البرازيل والتشيلي، ولكن وسط أزمة اقتصادية حادة وتفاقم العداء الشعبي والديبلوماسي للمملكة المتحدة.

مونديال ١٩٨٦: «يد الرب»
«حين سجلت الهدف بيدي، شعرت بأني سرقت محفظة نقود لأحد الإنكليز». بعد أعوام أربعة من هزيمة الأرجنتين المذلة في المالوين، شاءت الأقدار أن تجمع الفريقين في الدور ربع النهائي لمونديال المكسيك عام ١٩٨٦: التانغو أو الآلبيسيست لمارادونا، وفتيان البوتريرو مقابل مدارس الكرة والأسُود الثلاثة لمارغريت تاتشر. في أحد ملاعب منطقة الأزتيك وبحضور حوالى 120 ألف متفرج سحقتهم حرارة الشمس، كان مارادونا وحده يعيد كتابة التاريخ. بل يمكن القول إنّه في يوم «البرَكَة» هذا، كان الساحر الأرجنتيني يعيد اختراع كرة القدم: باليد في الهدف الأول، وبالمراوغة من منتصف الملعب التي جندل بها المدافعين الإنكليز واحداً تلو الآخر ليراوغ الحارس نفسه في الهدف الثاني. بدأت الأرجنتين تفرض إيقاعها على المباراة بالتدريج، بعد حذر أولي فرضته عظمة الأسماء الإنكليزية من غاري لينيكر وتيري بوتشر وغلين هودل وبيتر شيلتون وغيرهم. لحظة «عبور الملاك» كما يصفها الفرنسيون، كانت في الدقيقة ٥١ من المباراة: لم يكد المدافعون الإنكليز يلتقطون أنفاسهم بعد «هات وخذ» أو «وان-تو» بالمصطلح الكروي بين مارادونا وفالدانو الذي يسدد كرة ترتطم بمدافع يقوم بتشتيتها، لترتد في الهواء. طار مارادونا عن الأرض قليلاً وقذف الكرة بيده داخل المرمى الإنكليزي. الأرجنتين ١ـ إنكلترا ٠. جن جنون الإنكليز، واحتسب الحكم التونسي الهدف، مقتنعاً أن مارادونا سجله برأسه. لم يكن الصحافيون ولا المشجعون الأرجنتينيون من عمّدَ الهدف باسم «يد الرب»، بل مارادونا نفسه: «لم تكن يدي بل كانت يد الرب». أعاد الكابتن الأرجنتيني الاعتبار للخديعة كفن شعبي بامتياز. بعد أربع دقائق فقط، كأنها رغبة في طلب المسامحة، منح مارادونا العالم بأسره لحظة «أنطولوجية» سيصفها كثيرون بـ «هدف القرن». سحب الساحر الكرة من وسط ملعبه وتقدم بها وحده وسط الجرافات الإنكليزية ليتخطى الوسط والدفاع وشيلتون ويزرع الكرة في مرماه. ارتقى مارادونا في لحظة من العالم الأرضي إلى العالم الميتافيزيقي، كأن السماء أخذت بثأر الأرجنتينيين على يده. «كانت تلك المباراة بمثابة النهائي بالنسبة إلينا. لم يكن الأمر يتعلق بفوز مباراة، بل بإقصاء الإنكليز تحديداً. لن أنسى هذا اللقاء ما حييت». ما سيأتي كان أجمل، إذ سيقود مارادونا فريقه بعد أيام للفوز على منتخب ألمانيا العظيم حينها. طبع مارادونا بهدفيه تاريخ كرة القدم بطابع جيوـ سياسي وبدمغة في سجل العلاقات البريطانية ـ الأرجنتينية. مونديال ١٩٨٦ تم تسجيله كفصل من فصول السياسة الخارجية الأرجنتينية، بحيث تحول مارادونا إلى سفير أول لبلاده. في مونديال روسيا هذا العام، قد يحمل الأرجنتينيون اليافطة نفسها. سيلوح لهم مارادونا بيده عن المدرجات.
في نهاية فيلم «مارادونا، يد الرب» الذي أخرجه ماركو ريزي (٢٠٠٧)، يقف مارادونا الذي تجاوز وزنه المئة كيلوغرام وسط مصحة نفسية في كوبا أثناء علاجه من إدمان المخدرات، ليقول جملة أخيرة: «في هذه العصفورية رجل يقول إنه قداسة البابا، والكل يصدقه، وهناك امرأة تقول إنها مارلين مونرو، والكل يصدقها. أنا أقول إني مارادونا، ولا أحد يصدقني».

* المراجع: Simon Blin, Quand le Foot s’invite en politique, Blog Laregledujeu.