افتراضياً، أسّس خليل رباح (1961) «المتحف الفلسطيني لتاريخ الطبيعة والإنسان» عام 1995. يتمتّع متحفه بقابلية التخلي عن المكان، وإن كان ذلك قد بدأ قسرياً بسبب الاحتلال الإسرائيلي. باستطاعته النفاذ من سلطة السرديات الرسمية، والتلاعب بها إن شاء، وفصلها عن سياقاتها المنتظرة. متحفه/ مشروعه هو في الأساس تدخل كبير في السردية الفلسطينية التي كانت ولا تزال أداة مقاومة أساسية في قضية البلاد. لعل ذلك ناتج من وعي الفنان الفلسطيني لسلطة المتاحف، التي لم يشيّد منها في فلسطين إلا اثنان عام 2016 («المتحف الفلسطيني» في بيرزيت، و«متحف ياسر عرفات» في رام الله). الممارسة الفنية نفسها دفعت عدداً من الفنانين المعاصرين إلى تقديم أعمالهم ضمن إطار متحفي، لمواجهة الروايات الرسمية. منهم، الفنانة المغربية إيتو برادة، التي حاولت كشف التزوير الذي يتعرّض له إرث البلاد لأسباب تجارية، واللبناني وليد رعد الذي يصعب إيجاد تاريخ ثابت للحرب الأهلية اللبنانية في أعماله. هناك المراوغة والاختلاق المستمر للمرويات الخاصة والعامّة، في دلالة على حجم النقص والتعدد الذي يملأ تاريخ البلاد الدموي. في متحفه للفن الأفريقي المعاصر، يسعى الفنان الكوتوني مسشاك غابا إلى مجابهة السرديات الكولونيالية التي تحكم نظرة المتاحف الغربية والأوروبية إلى القارّة السمراء. فكيف إذا تعلّق الأمر بالتاريخ الفلسطيني المصادر من قبل العدو الإسرائيلي أولاً، ومن قبل السلطات المحلية التي لا تكاد تقل تزويراً عنه؟
يلجأ إلى السخرية لتصوير حجم القضية الفلسطينية التي صارت مثالاً عالمياً للشتات

في العاصمة اللبنانية، وتحديداً في «غاليري صفير زملر» (الكرنتينا)، وضع الفنان الفلسطيني أربعة أقسام جديدة لمتحفه. يقترحها علينا كـ «أربعة أماكن لزيارة الجنة»، عنوان معرضه الفردي الذي يستمر حتى 7 نيسان (أبريل).
الجنة هنا هي فلسطين المشتهاة والمجهولة، بقبعة الإخفاء الكبيرة التي تحجبها عن أعيننا. يستغل رباح هذه المسافة ويملأها بمواده وأعماله الفنية. الجهل بالمكان الواقعي، بسبب الحدود التي تفصلنا عنه، وبسبب الاختلاقات الكثيرة والتزوير الذي يتعرّض له التاريخ الفلسطيني... كلها ظروف تسهّل لرباح التلاعب بالرموز الوطنية الشعبية والفنية. يقترح لها امتدادات جديدة، مجارياً قضية بلاده التي تكبر ككرة الثلج. لا يتخلى عن معجم القضية الفلسطينية، ولا عن تلك النتف التي تصنع صورة فلسطين في الذاكرة الجمعية. سيستبدل، أحياناً، قطعاً كان قد عرضها في السابق، أو يضيف إليها عملاً جديداً، يعدّل بها أو يمحيها، يطوّر الوسائط من عرض أداء إلى رسم فتجهيز فني أو صورة فوتوغرافية. هذه التدخلات الكثيرة ستطال الإنسان الفلسطيني ومصيره المعلّق، الشجر، والخيطان الملوّنة التي تحاك بها أثواب النساء، زيت الزيتون، حجارة الانتفاضة وقد صارت صخوراً سيزيفية. على أن وسائط الفنان المختلفة من الرسم والتجهيز والفوتوغرافيا والفيديو والتطريز والنحت، ستعبر بنا بين الذاكرة الجمعية والحاضر والمستقبل. السخرية حاضرة، والرموز البصرية والفنية التي ألفتها أعيننا، ستتفتّت ضمن دعوة رباح إلى رؤيتها بطريقة جديدة، نقدية ربما، وقلقة، مليئة بالتساؤلات. عند مدخل متحفه البيروتي، الذي لن يتاح إلا لزوار المدينة هنا أن يروه بهيأته الحالية، تستقبلنا خريطة المتحف بأقسامه الأربعة. الخريطة مؤلّفة من أربعة خرائط، مطرّزة بألوان مختلفة: الأخضر لخريطة الضفة الغربية (قسم: النباتات)، الأزرق لخريطة البحر الميت (قسم: كوكب الأرض والمجموعة الشمسية)، الأحمر لقطاع غزّة (قسم الجيولوجيا والمستحاثات)، والأحمر الداكن لمخيم «قرية فلسطين الجديدة» في ساو باولو (قسم: علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا).
البداية من الضفة الغربية.

«في الوريد» (زيت على كانفاس ــ 40×60 سنتم 1997 ــ 2017)



عام 1995، جاء رباح بأشجار زيتون فلسطينية وزرعها في حديقة مكتب الأمم المتحدة في جنيف. حاول عرضه الأدائي لفت الاهتمام العالمي إلى التعديات الإسرائيلية على الإرث البيئي الفلسطيني والاقتصادي. خلال زيارة له بعد سنوات عدة، تنبه رباح إلى أن شجرة واحدة بقيت مكانها من بين كل الأشجار الأخرى التي اقتلعت من الموقع. في المعرض، أنجز مجسماً صغيراً للشجرات الأربع، ولتلك التي بقيت مكانها، فيما أرفقه بعدد افتراضي من جريدة United States of Palestine Times، كتب فيها مقالاً بعنوان «متحف يستعدّ لمقاضاة سويسرا والأمم المتحدة بسبب شجر الزيتون»، يطالب فيه بمنح الشجرة المتبقية الهوية السويسرية، إذ مضى على إقامتها هناك أكثر من 12 عاماً. المقاضاة التي يوجّهها رباح إلى الأمم المتحدة، تشير إلى الاستلاب الأكبر لشجر الزيتون من قبل الجرافات الإسرائيلية والتواطؤ الغربي معها، فيما تحاكي بتهكّم، الشتات الفلسطيني الذي تلفظه دول العالم كما لفظت الشجرات الأربع. في المعرض، يتبدّل العرض الأدائي الأول، لا يستسلم لهيأته، فيصير مقالاً بجريدة افتراضية، أو مجسماً لما مضى. يعبث الفنان بمحتويات متحفه، معرياً مدّة انتهاء صلاحية بعض قطعه الفنية على الملأ. في التسعينيات، قدّم عرضاً أدائياً عن الانتفاضة، يربط فيه حجراً على عضلات يده، بأنابيب مليئة بزيت الزيتون. بعد مرور سنوات على الانتفاضة الأولى، يقدّم لوحة تظهّر اليد والحجر وأنابيب الزيت، كأنما اللوحة هي وثيقة لمرور الزمن ليس على عرض الأداء فحسب، بل على الانتفاضة أيضاً. أمام اللوحة، هناك صخرة كبيرة لفّت أيضاً بأنابيب زيت زيتون ثخينة. من الأداء فالرسم فالتجهيز، يتماشى رباح مع تحوّل الانتفاضة أو القضية الفلسطينية التي صارت بحجم الصخرة الكبيرة في ترميز إلى الثقل الأسطوري التي باتت تحمله. في توجّه آخر، يصنع رباح رموزه الخاصة عبر دمج أدوات فلسطينية قد يصعب التقاؤها في الواقع. هكذا ينقع الخيطان الملوّنة في وعاء مليء بزيت الزيتون. من الضفّة الغربية إلى البحر الميت، يعبد رباح الطريق بالرموز الشعبية والفنية التي ارتبطت بفلسطين. لدى الدخول إلى الصالة الثانية، سيتجمّد الزائر قليلاً ليتفحّص ما إذا كان رجل لوحة «جمل المحامل» للفنان الفلسطيني سليمان منصور حقيقياً أو لا. بنحته الدقيق لرجل اللوحة، ثمة محاولة لتفكيك العمل وعناصره، ولمنحه بعداً حقيقياً بما يفوق دور اللوحة وقدرتها، رغم رسوخها وتجذّرها في الذاكرة الجمعية. وراء الرجل، هناك لوحة لمرسم، علّقت على أحد جدرانه لوحة سليمان نفسها، خلف لوحة غير مكتملة لـ «جمل المحامل» أيضاً. يتتبع رباح مسار اللوحة التي رسمها منصور للمرة الأولى عام 1973، ثم أعاد رسمها عام 2005. لكن هذا التداخل البصري القائم على تكرار اللوحة، كما يوظّفه رباح، يقترح شيئاً آخر، ويرمي بطريقة أو بأخرى، إلى اختبار دور الفن وموقعه وقدرته على التأثير، عبر بعثرة عناصره وتعريتها. ضمن السياق نفسه، علّق كوفية داخل إطار زجاجي على الجدار. وبهذا، يضعها في مكانة أي قطعة فنية ثمينة في المتاحف. لكنه سحب الخيطان السوداء للكوفية، وتركها ظاهرة للمتفرّج في الأسفل. كأنه يقوم بتقشير الهيئة الخارجية لهذا الرمز الفلسطيني ليختبر ماذا يبقى منه. ما الذي يجعل من لوحة أو عمل أو قطعة قماش رمزاً لقضية بأكملها؟ بالطبع ليست الخيطان السوداء.

«من دون عنوان» (فولاذ، وفيبر غلاس، وراتنج، وقماش ــ 160×65×60 سنتم ــ 2017)


بضع خطوات إلى اليسار، ستقودنا إلى قطاع غزّة (قسم الجيولوجيا والمستحاثات). لعله القسم الأقسى في المعرض، لأنه يتناول مباشرة عجز الإنسان أمام الحدود، الذي يستحيل عجزاً مجرّداً حيال كل شيء. على الشاشة، يعرض فيديو لرجل يفشل بشكل متواصل في إدخال قدمه في الحذاء. وحين يسأم من المحاولة، يجرّبه في استخدامات أخرى. يدخله في فمه، ويحاول قضمه، ويضعه بين قدميه محاولاً الإفادة منه بأي شيء، كأن يجربه كعضو ذكري. في المنتصف، يتوقّف الجزء الخلفي من كميون محمّل بالحديد وبعض الخردة والقطع المتهالكة. لكنه بلا دواليب. وفق اقتراح رباح، فإنه يستدعي ماكينات تفحص الألغام والمتفجرات التي ركنت تحته. كل هذا العجز والقيود الفروضة على الإنسان في غزّة تجعلها حديقة حيوانات كما يشير الاسم الآخر للقسم الذي علّق الفنان على أحد جدارنه صورة مطبوعة لمسارات الأنفاق التي يسلكها الناس لاجتياز حواجز القطاع المحاصر.
أمام الواقع القاتم للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وفي الخارج، يلجأ الفنان إلى السخرية لتصوير حجم القضية الفلسطينية التي صارت مثالاً عالمياً للشتات. في قسم الأنثروبولوجيا، يختفي الأثر البشري تماماً. يلجأ الفنان إلى إعادة رسم صور من مخيم «قرية فلسطين الجديدة» في ساو باولو. على عكس ما قد يخيل للبعض، فإن المخيم لا يقطنه لاجئون فلسطينيون. لقد لجأت إليه حوالى 8000 عائلة برازيلية تعاني الفقر عام 2014، كاحتجاج على الإيجارات والأسعار المرتفعة، لتتخذ من الخيم المصنوعة من أغطية بلاستيكية والخشب موطناً لها. أما الاسم التي اختارته العائلات، فيعتمد فلسطين كنموذج عن الظلم والهجرة والتهميش، من منطلق التضامن مع القضية الفلسطينية. في اللوحات المرسومة بأحجام كبيرة كأحجام الخيم، تظهر المخيمات، لكن رباح يفرغ الوجود البشري منها، فيبقى منها هالات شبحية غائبة تماماً. بجانبها، ركنت خزانة علّقت عليها من الخارج قطع ملابس. هناك ما يدلنا إلى الوجود البشري الذي تفشل أعيننا في القبض عليه بشكل مباشر. كرسي لا يتسع له الصندوق الموضوع في إحدى زوايا الصالة، كما لو أنه الوطن، الذي تلفظه حقائب اللاجئين.

* «أربعة أماكن لزيارة الجنّة» لخليل رباح: حتى 7 نيسان (أبريل) ــ غاليري «صفير ــــ زملر» (الكرنتينا ــ شمال بيروت). للاستعلام: 01/566550