آلاف من أهالي المفقودين في لبنان لم ييأسوا بعد رغم مرور كل هذه السنوات، يناضلون على أكثر من جبهة لنيل حقهم بالكشف عن مصير أحبّتهم، مهما كان هذا المصير:إذا كانوا أحياء أين هم اليوم؟ وإن كانوا في عداد الأموات، أن يتأكدوا بالدلائل والبراهين العلمية من ذلك، لتسيّج القبور ويُعلن الحداد وتُذرف الدموع. أكثر من 41 عاماً مضت ولا تزال قضية المفقودين في لبنان حاضرة بقوة الإنسانية رغم كل التحديات.راهن المسؤولون على الوقت لطمسها والتخلّص من الذاكرة الجماعية، لكن من بقي من أهالي المفقودين هرموا ولم ينسوا، (راجع الأخبار تاريخ 28 آذار 2023، «خط زمني يوثّق 40 عاماً من قضية المفقودين: فليكن معرضاً دائماً»)، فالأحبة لا ينسون أحباءهم، وهؤلاء المفقودون لا يمر عليهم الزمن (راجع «القوس»، تاريخ 5 آذار 2022، «المفقودون لا يمرّ عليهم الزمن).

(الأخبار)

تتحدّث رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين وداد الحلواني لـ«القوس» عن المسار النضالي الطويل الذي بدأ قبل 41 عاماً، مع تأسيس لجنة أهالي المفقودين في لبنان في 11/24/ 1982، بهدف معرفة الحقيقة والكشف عن مصير جميع الضحايا الذين خُطفوا وفُقدوا خلال الحرب (1975-1990)، مشيرة إلى أنّه «على مدى كل السنوات التي مرّت بها قضية المفقودين، لم نحد يوماً عن القضاء. كانت أول محطة فعلية توجّهنا فيها إلى القضاء عام 2009، حين تقدّمت اللجنة بشكوى أمام مجلس شورى الدولة لتسليمنا نسخة عن التقرير النهائي الذي أعدّته اللجنة الرسمية التي كُلفت عام 2000 بالكشف عن مصير المفقودين». وتضيف: «أنصفنا القضاء وأصدر قراراً يقضي بأن تسلّم الدولة أهالي المفقودين نسخة عن التقرير. ورغم أن القرار ملزم، إلا أنّه صار هناك غمز من قناة إثارة الفتن الطائفية، فطلبت الحكومة حينها وقف تنفيذ القرار في إطار دعوى رفعتها لإعادة المحاكمة في القضية. ولم تكتف الدولة بطلب وقف تنفيذ حكم مجلس شورى الدولة، بل طالبت بإعادة المحاكمة من أساسها. إلا أن مجلس الشورى أصدر قراره بردّ هذا الطلب، واعتبر أنّ أي تأخير في تسليم نسخة بكامل ملف التحقيق بمثابة تصرف ضد قانون موقّع من قبل الدولة اللبنانية وهو قانون مناهضة التعذيب، ولم يتحقق ذلك إلا بعد اعتصامات قامت بها اللجنة». وتتابع: «تحت شعار الخوف من إثارة النعرات الطائفية وتهديد السلم الأهلي، امتنعوا بين عامي 2000 و2014 عن تسليمنا تقرير اللجنة. لكنّ القضاء اللبناني أنصفنا، رغم كل هذه المحاولات، وتسلّم المحامي نزار صاغية تقرير اللجنة بصفته موكّلاً عن لجنة أهالي المفقودين وجمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد) التي تُعتبر شريكة في النضال».
وتقول حلواني: «خلاصة تقرير اللجنة: لم نجد أحياء من المفقودين وإنما وجدنا مقابر جماعية في عدد كبير من المناطق اللبنانية. وحدّد التقرير مقبرتين في ما كان يسمى المنطقة الشرقية، ومقبرتين في ما كان يسمى المنطقة الغربية. حتى في هذه القضية اعتمدوا قاعدة 6 و6 مكرر، ولم يسلّمونا أي دليل. نشروا صفحة ونصف صفحة فقط».

لا إحصاءات دقيقة
17000 مفقود هو التقدير الرسمي لعدد المفقودين بعد انتهاء الحرب الأهلية. لم يجر إحصاء رسمي يقدّم رقماً محدداً بعد انتهاء الحرب، وتركز الحديث عن تقديرات للخسائر البشرية والمادية. وتشير حلواني إلى أن «اللجنة لم تتواصل مع 17000 عائلة مفقود، هذه مهمة الدولة، نحن بادرنا منذ تشكيل اللجنة في عام 1982، وكانت الحرب لا تزال مشتعلة، إلى دعوة كل من فقد أحداً من أسرته إلى التسجيل في سجلّاتنا، وتضم لوائح لجنة المفقودين في لبنان بين 2500 و2600 مفقود. الإحصاء أمر دقيق يتطلب تجهيزات وأموالاً وكوادر بشرية لإنجازه».

قانون ومرسوم تطبيقي
أُقر قانون المفقودين والمختفين قسراً في 13 تشرين الثاني 2018، وصدر في الجريدة الرسمية في 30 تشرين الثاني 2018 (رقم 105 تاريخ 30/11/2018). وتؤكد حلواني أن إقرار القانون «إنجاز مهم جداً ليس فقط لأهالي المفقودين بل للمجتمع اللبناني برمّته كونه يساعد على قيام الدولة مجدداً».
بعد عامين، صدر أوّل مرسومٍ تطبيقي للقانون 105/2018، والمتعلّق بتشكيلِ الهيئة الوطنية للمفقودين والمختفين قسراً، المؤلّفة من عشرة أعضاءٍ وفق المادة (10) منه، والمُولجة بتقفّي أثر المفقودين والكشف عن مصيرهم (المرسوم الرقم 6570 تاريخ 3/7/2020).
تأسف حلواني لعدم إعطاء الهيئة المقوّمات الأساسية التي ينص عليها القانون 105/2018، وتقول: «تعمل الهيئة باللحم الحي، وقد أنجزت كل الوثائق الداخلية المطلوبة منها بموجب القانون، كما وضعت إستراتيجية وخطة عمل للمدة المتبقية لها. مطلبنا ونضالنا الأساسيان هما دعوة المجتمع اللبناني بأفراده وهيئاته وقطاعاته إلى الالتفاف حول الهيئة الوطنية للقيام بعملها كما يجب».

نضال مستمر
أطلقت لجنة المفقودين في لبنان على مدى سني عملها الطويلة عدة حملات وطنية ساهمت من خلالها في تحقيق خطوات باتجاه الحل وصولاً إلى انتزاع قانون المفقودين والمختفين قسراً (2018)، منها:
• في عام 2015 ، أطلقت حملة «حقنا نعرف» طالبت من خلالها بإعلان 13 نيسان يوماً وطنياً للذاكرة.
• في عام 2017، أطلقت حملة «العريضة الوطنية» التي وقّع عليها أكثر من 5000 شخص بمن فيهم رؤساء أحزاب والرؤساء اللبنانيون (لا تتضمن تواقيع أهالي المفقودين)، وجرى تسجيل العريضة الوطنية في قلم مجلس النواب.
• في عام 2018، أطلقت حملة «لائحة المفقودين في كل لبنان» في أجواء الانتخابات النيابية، خاصة أن أسماء المفقودين لا تزال لوائح الشطب تتضمّنها.
• في عام 2023 أطلقت اللجنة، بتمويل من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، كتاب «طواحين الهوى» الذي يوثّق حكايات أهالي المفقودين في لبنان.

طواحين الهوى
أعدّت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان بتمويل من المركز الدولي للعدالة الانتقالية كتاباً بعنوان «طواحين الهوى»، يتضمن قصصاً قصيرة من تأليف 15 سيّدة من أهالي المفقودين والمختفين قسراً في لبنان بين عامَي 1975 و1990، أملاً منهنّ في أن تساهم هذه الحكايات النابعة من قلوبهن في التخفيف من حرقتهن، وأن تشكل هذه الصفحات الممهورة بختم أصحاب القضية مرجعاً وقيمة إضافية وضرورية لكتابة تاريخ الحرب الأهلية التي عاشها لبنان «حتى تنذكر وما تنعاد».

المركز الدولي للعدالة الانتقالية
«قضية المفقودين يجب أن تكون على رأس الأولويات التي يجب المسارعة إلى حلها. لا يمكن أن تقوم دولة القانون، ولا سلام مستدام ولا ديموقراطية حقيقية إلا إذا عالجنا الماضي. للأسف ملف المفقودين والمختفين قسراً لغاية اليوم لم يعالج في لبنان»، تقول نور البجاني نور الدين، مديرة برامج لبنان واليمن في المركز الدولي للعدالة الانتقالية، مشيرة إلى أن «قضية المفقودين والمختفين قسراً هي من أكثر الملفات التي يُعمل عليها من قبل المركز في لبنان». وتتابع: «ساهم المركز في صياغة المسوّدة الأولى لقانون المفقودين والمختفين قسراً، كما تابع القانون منذ تقديمه كمسوّدة إلى المجلس النيابي عام 2014 وصولاً إلى إقراره عام 2018. ومنذ إنشاء الهيئة الوطنية عام 2020، يقدم المركز الدعم لها قدر المستطاع من خلال تقديم الخبرات المالية والتقنية رغم التحديات الكبيرة وفي ظل غياب الإرادة السياسية لحل ملف المفقودين والمختفين قسراً». وتوضح نور الدين: «نركز على توعية الشباب على قضية المفقودين والقضايا التي لها علاقة بالماضي حتى نستطيع بناء الحاضر والمستقبل، في هذا الإطار أتت فكرة كتاب طواحين الهوى، وعمل المركز على تدريب 15 سيدة من أهالي المفقودين على الكتابة الإبداعية لإيصال الفكرة إلى الرأي العام، هذه القصص يجب أن تبقى حيّة في ذاكرة الناس حتى الوصول إلى مرحلة كشف المصير والعدالة».

كي لا تموت القضية
اهتمت الكاتبة والروائية فاطمة شرف الدين بتعليم السيدات وتدريبهن على الكتابة الإبداعية إضافة إلى متابعتها الفردية لكل سيدة في المجموعة تنقيحاً وتصويباً على مدى سنة كاملة. عن هذه التّجربة، تقول: «كتاب طواحين الهوى يوثّق معاناة أهالي المفقودين حتى لا تموت القضية، الكلمة المطبوعة تخلد، المشاركات تفاوتن بمستوياتهن التعليمية، وكنت، بصفتي مدربة على الكتابة، أعطيهن أسس الكتابة، والمنطق في الانتقال من فكرة إلى فكرة، والتعبير عن مشاعرهن بطريقة غير مباشرة، والتعبير عن أي شيء مررن به».
تُرجم كتاب «طواحين الهوى» إلى الفرنسية والإنكليزية بهدف توعية الرأي العام على هذه القضية، كما تقام أنشطة عدة بالتنسيق مع اللجنة في المكتبات العامة والمعارض لتحقيق هذا الهدف.

قالت مريم التي فقدت ابنها ماهر في منطقة الحدث عام 1982: ماهر حاضر في كياني لا يفارقني لحظة



هذه حكايتي
فقدت فاطمة جمال أختها حلمية علي جمال مع أطفالها الستة، ألفت وأحمد وحياة وزينب ونيفين ومصطفى، في منطقة النبعة، سنة 1977. كتبت حكايتها في «طواحين الهوى»، وجاء فيها: «أحياناً أحلم أن أختي تطرق باب بيتي وترتمي في حضني، أحلم أن نذهب معاً لزيارة قبرَي أمي وأبي لنطمئنهما على عودتها، أحلم كثيراً. سأبقى أحلم إلى أن يتحقق أصغر أحلامي وهو معرفة مصير أختي وأولادها، مهما كان هذا المصير».

عاصفة داخل جسد
مريم سعيدي فقدت ابنها ماهر قصير في الجامعة اللبنانية في منطقة الحدث، في 17 حزيران 1982، كتبت تقول: «ماهر حاضر في كياني لا يفارقني لحظة، في تلك الزاوية من منزلي، تراه يسكنها، يواسي روحي بطيّات من أطيافه. ها أنا أجالسه في كل ثانية، وهو يرافقني في تفاصيل حياتي بعد أن تزوّج إخوته. ذاك المجسّم أدخل إلى وريدي رعشة ولادته من جديد، وذكّرني برهبة المخاض، تلك العاصفة التي لازمتني لكي أعيش حتى آخر رمق، عاصفة داخل جسد».

لم تنسَ جورج
تحت عنوان «رحلة في ماض أليم» كتبت سعاد أبو نكد التي فقدت شقيقها جورج على طريق زحلة - ضهور الشوير في 19 تموز 1983: «كانت أمي سيّدةً كلّها حيويّة وحياة وحركة. مرّ عمرها هدراً بسبب مأساة اختفاء أخي. منذ فترة، تعبت وعجزت وأخي لم يعد بعد، صارت تردّد عليّ وعلى إخوتي، إذا رجع أخوكم وأنا لم أعد هنا، روحوا اطرقوا على قبري وأخبروني أنه رجع، قد تعود إليّ الحياة ويعود قلبي ينبض من جديد. هذه أمّي نسيتنا كلنا لكنّها لم تنسَ جورج. تحكي معه في الحلم، تضحك له، وهي ليست حاضرة ذهنياً معنا».