نمشي في الشوارعِ باحثين عن السلامة، من سيدفننا إذا متنا؟ عرايا نحن، لا أُفقٌ يُغَطينا ولا قبرٌ يوارينا ...(محمود درويش)

رائحة الموت تفوح في كل مكان في غزّة. أكثر من 11200 شهيد وشهيدة سقطوا على مذبح الحرية. تتناقل وسائل الإعلام يومياً صور الشهداء وأغلبهم من النساء والأطفال، ولا تتوقف آلة الإجرام عند حدود القتل للغزاويين، بل تطال إنتهاكاتها للكرامة الإنسانية للضحايا حتى بعد موتهم.
جثث الشهداء في كل مكان: على جوانب الطرقات، في برادات المستشفيات وباحاتها، وتحت الركام. المئات لم ينتشلوا بعد، إذ لا يسمح العدو بأعمال الإغاثة، والجميع مستهدف. لا تمييز بين مسعف أو منقذ، فالجميع يُُقتل بدم بارد.
تغيب الإحصاءات الدقيقة لأعداد الشهداء في غزة، فالمعركة مستمرة وغبارها لم ينجل بعد. ولكن ماذا عن المفقودين منذ بداية العدوان؟ هل يحتمل موضوع تعداد الشهداء الخطأ والتأويل حتى لو تجاوز العشرة آلاف شهيد؟ حتماً لا، فكل رقم هو إنسان، هو روح وعالم بأسره لا يمكن تدويره أو شطبه من القيود تحت أي ظرف من الظروف. حتى أولئك الأطفال الذي ولدوا منذ بداية العدوان واستشهدوا خلاله، من حقهم أن تكتب أسماؤهم في حيز القيود، وأن لا يحرموا من وجودهم في سجل الشهداء.
في غزّة، جثث الشهداء بعضها مشوه، تكتب الأسماء على أكياس الموت، تتكدس جنباً إلى جنب، يُلف الشهيد بالأغطية والحرامات، والأكفان.
كل ما يجري مع الشهداء هو إنتهاك للكرامة الإنسانية. فالدفن ممنوع في كثير من الأحيان بسبب العدوان المستمر، تدفن الجثث على عجل، ويُصلّى عليها في باحات المستشفيات. ويُمنع في كثير من الأحيان دفنها، وتتأجل العملية عدة مرات في انتظار فرصة مؤاتية. وينقل عدد من الغزاويين كيف تجمع الجثث في الباحات الخارجية للمستشفيات، تحفر لها حفرة كبيرة، وتوضع الجثث داخلها جنباً إلى جنب، ثم يُهال عليها التراب. وهناك أعداد كبيرة من الشهداء لا يتم التعرف على هوياتهم أو أسمائهم، وأشلاء كثيرة لا يعرف أصحابها .
حول ما يجري في غزّة، وتحديداً في موضوع دفن الجثث والتعاطي مع الشهداء، يقول رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة الشيخ ماهر حمود: «كل من سقط في غزّة على يد العدو والمحتل الصهيوني هو شهيد مظلوم، قتل من دون ذنب اقترفه، يأخذون من صفات الشهداء الذين يسقطون في أرض المعركة وهم يقاتلون العدو، ويشتركون معهم في سرعة خروج الروح وعدم الشعور بآلام نزعها وأيضاً في مغفرة الذنوب». ويضيف: «هؤلاء الشهداء نيتهم قتال العدو، ولو تم إعطاؤهم القدرة على القتال لفعلوا ذلك. اختاروا أن يكونوا شهداء. لم يستسلموا للعدو ولم يخرجوا من ديارهم، صمدوا في غزّة، كانوا ثابتين في عقيدتهم وفي أفكارهم حيال المحتل الغاصب، وهم في الدرجات العالية بإذن الله».
حمّود: لم يستسلموا للعدو ولم يخرجوا من ديارهم، صمدوا في غزّة، كانوا ثابتين في عقيدتهم


وحول الأعداد الكبيرة للشهداء وصعوبة القيام بالتكاليف الدينية الخاصة بهم عند الموت لجهة الدفن والتكفين والصلاة عليهم، ينطلق الشيخ حمود من مقولة أن «إكرام الميت دفنه»، فلا يجوز التأخير في الدفن لاعتبارات نفسية وصحية، مشيراً إلى أنّه «مع اختلاف العلماء في الإجتهادات، فإن شهيد المعركة يدفن بثياب المعركة كما فعل رسول الله مع شهداء معركة أحد، إذ صلى عليهم ودفنهم دون تغسيل. وفي غزة يتم التعاطي مع الشهداء كشهداء المعركة، يدفنون من دون تغسيل لاستحالة هذا الأمر مع الأعداد الكبيرة للشهداء».
أما بالنسبة للصلاة على الميت، يفترض أن تؤدى بشكل مباشر على الميت، وإذا لم تكن هناك إمكانية لذلك، يمكن الصلاة عليه في وقت لاحق. ويلفت إلى «وجود حرج في الصلاة على أشلاء الشهداء والجثث غير المعروفة، فتصبح الفتوى عندها متعلقة بحسب الإستطاعة».
وفي ما يتعلق بالدفن الجماعي، يوضح الشيخ حمود أنّ «الأصل في الفقه الإسلامي وجود فاصل بين كل جثة وغيرها، ولكن في هذه الظروف، وخاصة في موضوع القتل الجماعي والأعداد الكبيرة للشهداء، يجري دفنهم في حفرة واحدة لتعذر دفن كل شهيد في قبر». ويختم قائلاً: «النصر في غزّة حتمي ان شاء الله، وكل الشهداء الذين سقطوا ويسقطون يدفعون بدمائهم الثمن الباهظ للنصر».