بعد 77 عاماً على أحد أبشع فصول القتل الجماعي في تاريخ البشرية، لا تزال التقارير اليابانية عن الوفيات والاصابات المستمرة بالإشعاعات تنذر بالقوة التدميرية لقنبلتين ذريتين رماهما الجيش الأميركي على هيروشيما وناغازاكي. وكانت هذه التقارير قد أربكت القيمين على مشروع «مانهاتن» الأميركي في اربعينيات القرن المنصرم، غير ان واشنطن عدّت تلك التقارير العلمية «بروباغاندا إعلامية». وبوقاحة لافتة، قال مدير مشروع «مانهاتن» التدميري، الجنرال غروفز، أمام مجلس الشيوخ الأميركي إن الإصابة بالاشعاعات «طريقة للموت لطيفة للغاية»، علماً أن تقريراً للبحرية الأمريكية كان قد أشار بوضوح الى أن «القنبلة الذرية هي أفظع عامل تدمير عرفه الإنسان». نعرض في ما يأتي بعض وثائق أرشيف الأمن القومي الاميركي السرية حول «القنبلة الذرية ونهاية الحرب العالمية الثانية»، والذي يشتمل على سجلات حول الاصابات الإشعاعية كما تم تسجيلها خلال عام 1945، والتقرير الأولي السري لمشروع «مانهاتن» المدمّر وتقارير البحرية الأميركية حول الآثار الطبية للقنابل الذرية
«الإشعاع سيجعل هيروشيما وناغازاكي غير صالحتين للسكن لمدة سبعين عاما». هذا ما ورد في تقرير لأحد العلماء الذين عملوا في مشروع مانهاتن التدميري، والذي تبرّأ من تقريره تحت ضغط العملاء الفيدراليين (المستند 12، 8 آب 1945، غير مصنف، المحفوظات الوطنية). فقد أثبتت وثائق عدة رُفعت عنها السرية ان الاميركيين كانوا يعلمون بمخاطر الاشعاع الناتج عن اطلاق القنبلتين الذريتين، «الولد الصغير» و«الرجل البدين»، على مدينتي هيروشيما وناغازاكي.

خديعة أميركية
وقد تكتمت واشنطن عن معرفتها بآثار الاشعاع الناتج عن القنبلتين الذريتين، متذرّعة بأن العلماء الذين عملوا على إنتاج القنابل الذرية كانوا منشغلين ببناء سلاح ذي قوة غير عادية ذات عائد متفجر هائل، معتقدين أن آثار الانفجار ستكون السبب الرئيسي للوفيات. علماً ان خبراء طبيين كانوا قد أثاروا، أثناء الاستعدادات للاختبار الذري الأول (تجربة الثالوث أو ترينيتي)، مخاطر النشاط الإشعاعي التي من شأنها أن تخلّف مخاطر صحية. وصرّح كبير المسؤولين الطبيين في مشروع «مانهاتن»، الدكتور ستافورد وارين، في تقرير سري للغاية أن «الغبار المتساقط من الأجزاء المختلفة من سحابة الفطر، من المحتمل أن يكون خطيرًا للغاية». (المستند 1، «أخطار تجربة الثالوث»، 12 نيسان 1945، سري، أرشيف الاختبارات النووية). كما راجع خبراء الإشعاع الآليات التي يمكن ان تؤدي الى تساقط الغبار المشع وانتشاره. (المستند 8، «مؤتمر حول تلوث الريف القريب من الثالوث بالمواد المشعة»، 10 تموز 1945، غير مصنف، أرشيف الاختبارات النووية).

حماية أطقم الطائرات الاميركية
كان خبراء الصحة في مشروع «مانهاتن» يدركون جيدًا العواقب البيولوجية للتعرض للإشعاع. وبسبب ذلك، أوصى العلماء بتدابير سلامة لأطقم الطائرات بعد التفجير. وتشير مذكرات سرية الى ان الاميركيين كانوا يناقشون عواقب الانفجار الجوي للسلاح النووي والاحتياطات التي يتعين على طاقم القاذفة اتخاذها، كما كانوا يدركون ان الانفجار ينبعث منه إشعاع «قاتل داخل دائرة نصف قطرها حوالي ستة أعشار ميل»، وانه سيرتفع معظم النشاط المشع إلى ارتفاع كبير فوق الهدف وسيبقى كسحابة مدمجة إلى حد ما لساعات بعد التفجير. (المستند 2 مذكرة، 11 أيار 1945، سري للغاية، الأرشيف الوطني).

قلق زائف
بعد وقت قصير من التفجيرات الذرية، أعرب مدير قسم الصحة في المختبر عن قلقه في شأن التأثيرات الإشعاعية، متسائلاً عما إذا كان «قد تم تحذير اليابانيين من أن مخاطر الإشعاع ستبقى بعد زوال خطر الانفجار». (المستند 13 مذكرة، 9 آب 1945، غير مصنف، أرشيف الاختبارات النووية)، خصوصاً ان مراقبي الإشعاع أكدوا وجود إشعاع بمستويات عالية، إضافة الى تداعيات كبيرة تصل إلى مسافات بعيدة (المستند 9 ، تقرير عن الاختبار في ترينيتي، 21 تموز 1945، سري للغاية، أرشيف الاختبارات النووية). وفي جلسات الاستماع أمام اللجنة الخاصة للطاقة الذرية، قال أحد قادة مشروع «مانهاتن» (الجنرال غروفز) إنه لا يرى أي خيار بين إلحاق النشاط الإشعاعي بـ «عدد قليل من اليابانيين» و«إنقاذ أرواح 10 أضعاف ذلك من الأميركيين» (المستند 25، جلسات الاستماع أمام اللجنة الخاصة للطاقة الذرية، مجلس الشيوخ الأميركي).

سلاح «ترهيبي»
يبدو ان الولايات المتحدة ارادت «ترهيب العالم» بجريمة القتل الجماعي تلك. بالإضافة الى الانفجار والحرائق الجماعية والدمار والخسائر البشرية والطبيعة، موت بطيء. بالنسبة لقيادة مشروع «مانهاتن»، لم تكن السلامة الإشعاعية أولوية أبدًا مقارنة بالهدف الأول المتمثل في إنتاج سلاح قابل للتنفيذ، لكن خطط إنتاج كميات كبيرة من المواد الانشطارية جعلت الجريمة اكثر فظاعة، لا سيما مع استخدام البلوتونيوم، الذي لم يكن موجودًا من قبل في الطبيعة.
ناقش الخبراء الروابط بين مرض الإشعاع وأشعة غاما التي تم إرسالها من الانفجار، إذ ظهر أن الإشعاع كان له تأثير على الدم. وقد أفادت الدراسات حول الآثار الطبية للانفجارات أن «الآثار المتأخرة» تنطوي على أعراض شديدة «كانت بسبب الإشعاع»، وقد قدمت تقارير من فريق البحرية معلومات عن التأثيرات الإشعاعية، بما في ذلك «النشاط الإشعاعي المتبقي» الناجم عن نواتج الانشطار المترسبة في الأرض.
والجدير بالذكر انه تم وضع اشارة على كل هذه المعلومات على أنها سرية للغاية في تقارير البحرية، رغم أن النتائج المقدرة للانفجار، إلى جانب معلومات آثار الأسلحة الأخرى، رفعت عنها السرية رسميًا عام 1948 من قبل هيئة الطاقة الذرية.
وقد ركزت التقارير على النتائج الطبية وقياسات النشاط الإشعاعي وتقديرات الأضرار والإصابات، بما في ذلك الحروق الحرارية وتلك الناجمة عن آثار الانفجار، وتأخر أعراض التسمم الإشعاعي التي ظهرت بعد ثلاثة إلى ثلاثين يومًا. وذكر أنه من بين حوالي 4000 مريض تم إدخالهم إلى المستشفيات في المدينتين، أظهر 1300 أو 33٪ آثارًا للإشعاع، وقد توفي نصف هذا العدد تقريبًا. (المستند 24 تقرير أولي - التحقيق في القنبلة الذرية، 27 تشرين الثاني 1945، سري، المجموعات الخاصة لمكتبات جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس).

«مرض القنبلة الذرية»
في الأسابيع التي أعقبت التفجيرات الذرية، صدرت تقارير من اليابان عن حالات وفاة غامضة لناجين لم يصابوا بأذى نتيجة انفجار أو آثار حريق. ورغم عدم وصف ذلك في البداية بأنه مرض الإشعاع، إلا أن اليابانيين كانوا ينسبونه الى «مرض القنبلة الذرية». وقد أتاح إعلان الولايات المتحدة أنها استعملت سلاحاً ذرياً للعلماء اليابانيين فهم التقارير الغامضة لإصابات غامضة ظهرت في هيروشيما ثم ناغازاكي (المستند 17 مذكرة، 24 آب 1945، سري، أرشيف الاختبارات النووية).
وأفادت تقارير يابانية بأن أي شخص دخل منطقة الانفجار من الخارج بعد وقوعه أصيب بالمرض، وقد توفي عدد من هؤلاء ممن يبدو أنهم لم يصابوا بجروح في الأصل، فيما يموت كل يوم حوالي عشرين جريحًا. (المستند 22 مذكرة، 14 أيلول 1945، سري، القائد الأعلى لقوات الجيش).

المطر الأسود
ارتبطت مشكلة «النشاط الإشعاعي المتبقي» بتأثير التداعيات، اذ أن الانفجارات أنتجت ما أصبح يُعرف باسم «المطر الأسود» - قطرات المطر المليئة بالإشعاع التي سقطت على سكان هيروشيما وناغازاكي. كان هذا موضوعًا في رواية ماسوجي إيبوز الاستثنائية، «المطر الأسود» (1969).
قال أحد قادة مشروع مانهاتن إنه لا يرى أي خيار بين إلحاق النشاط الإشعاعي بـ «عدد قليل من اليابانيين» و«إنقاذ أرواح 10 أضعاف ذلك من الأميركيين»


وقدم التقرير البحرية معلومات مفصلة عن مشكلة التداعيات، مع اكتشاف مستويات «كبيرة من الناحية الفسيولوجية» من «الإشعاع المتبقي» في المناطق النائية بعد التفجيرات، بما في ذلك المستويات التي يحتمل أن تكون خطرة في منطقة نيشياما في ناغازاكي.
فخلال العقود التي أعقبت القصف الذري، تعرض العديد من الأشخاص للمطر الأسود، علماً انهم كانوا خارج المناطق الجغرافية التي تأثرت بالانفجار، والتي كانت أساسًا لتحديد مزايا الناجين. وقد كان التوجيه الرسمي الممنوح لفرق المختبر والجيش والبحرية هو التحقيق ولكن عدم المشاركة في العلاج لأنه كان من الممكن اعتبار ذلك بمثابة اعتراف بـ «المسؤولية الأخلاقية» (المستند 26 من رئيس البعثة الفنية البحرية إلى اليابان، إلى رئيس العمليات البحرية، «تقرير الهدف - القنابل الذرية وناغازاكي وهيروشيما المادة الأولى التأثيرات الطبية»، 15 كانون الاول 1945، سري للغاية، سجلات رئيس العمليات البحرية).

روابط بعض المستندات السرية التي كشف عنها الأميركيون أخيراً
المستند 12، 8 آب 1945، غير مصنف، المحفوظات الوطنية
المستند 2 مذكرة، 11 أيار 1945، سري للغاية، الأرشيف الوطني.
المستند 8، «مؤتمر حول تلوث الريف القريب من الثالوث بالمواد المشعة»، 10 تموز 1945، غير مصنف، أرشيف الاختبارات النووية
المستند 13 مذكرة، 9 آب 1945، غير مصنف، أرشيف الاختبارات النووية
المستند 9 ، تقرير عن الاختبار في ترينيتي، 21 تموز 1945، سري للغاية، أرشيف الاختبارات النووية
المستند 25، جلسات الاستماع أمام اللجنة الخاصة للطاقة الذرية، مجلس الشيوخ الأميركي
المستند 24 تقرير أولي - التحقيق في القنبلة الذرية، 27 تشرين الثاني 1945، سري، المجموعات الخاصة لمكتبات جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس.
المستند 17 مذكرة، 24 آب 1945، سري، أرشيف الاختبارات النووية.
المستند 22 مذكرة، 14 أيلول 1945، سري، القائد الأعلى لقوات الجيش.
المستند 26 من رئيس البعثة الفنية البحرية إلى اليابان، إلى رئيس العمليات البحرية، «تقرير الهدف - القنابل الذرية وناغازاكي وهيروشيما المادة الأولى التأثيرات الطبية»، 15 كانون الاول 1945، سري للغاية، سجلات رئيس العمليات البحرية.



لا يوجد إحصاءدقيق لمجموع الضحايا
تستمر الدراسات حول الآثار الصحية للقنابل الذرية، لكن العدد الإجمالي الدقيق للوفيات في كلتا المدينتين غير معروف. بالنسبة لهيروشيما، تتراوح تقديرات الوفيات بين 70.000 و140.000، بينما يتراوح العدد في ناغازاكي بين 40.000 و110.000. كما أنه ليس مؤكداً عدد الأشخاص، في كلتا المدينتين، الذين قتلوا أو عانوا من مرض الإشعاع في الأسابيع والشهور والسنوات التي أعقبت التفجيرات، وقد اكدت الدراسات ان المناطق التي تعرضت للإشعاع شهدت معدل وفيات بسرطان الدم أكبر من المعتاد في السنوات التي تلت الانفجارين.


أكثر من 200 ألف
قتل الجيش الأميركي حوالى 135 الف شخص في مدينة هيروشيما يوم 6 آب 1945، وفي 9 آب 1945 قتل حوالى 80 الف شخص في مدينة ناغازاكي


22
على نطاق صناعة الإشعاع، تم اعتبار معيار قدره 0.1 رونتجن يوميًا كحد أقصى للتعرض لكامل الجسم، الا ان العلماء توقعوا أن يتعرض الفرد لحوالي 22 رونتجن في الساعات التي تلي الانفجار، كان ذلك أعلى 100 مرة من معيار الأمان الرسمي الحالي.
(المرجع: المستند ٣ مذكرة، 16 حزيران 1945 سري، أرشيف الاختبارات النووية).