لا يكاد يُعلّق إضراب، حتى يُعلن آخر. هذه هي حال المحاكم منذ ثلاث سنوات. فمنذ استفحال الأزمة الإقتصادية، ومعها فترة الإقفال العام جرّاء جائحة كورونا، تشهد السلطة القضائية، إحدى أركان السلطات الثلاث في لبنان، شللاً شبه تام، نتيجة تعاقب إضرابات القضاة والمساعدين القضائيين، إحتجاجاً على تبخّر الرواتب، ما عطّل الكثير من الدعاوى والقضايا. كما تشهد «العدليات» شحاً غير مسبوق في المستلزمات الأساسية اليومية لسير العمل، وتهالكاً إضافياً في الكثير من التجهيزات داخلها، ما يُهدد إستمرار عملها، ويشرّع أبواباً جديدة من الفساد والرشاوى والفوضى.«قبل الأزمة الإقتصادية التي إنفجرت أواخر عام 2019، كان الإلتحاق بالوظيفة العامة أشبه بحلمٍ، نُحسد عليه، لما تؤمنه من راتب ثابت كان كافياً، إلى حدٍ ما، لتغطية مستلزمات الحياة، إضافة إلى الإستقرار الوظيفي، وبعض المنح والتغطية الصحية. أما الآن، فقد باتت هذه الوظيفة كابوساً نبحث عن سبلٍ للهروب منها إلى أي وظيفة أخرى تكفل الحد الأدنى من كرامة الإنسان»، تختصر رنا، المساعدة القضائية، حال كثيرين من موظفي القطاع العام. «لو ما زوجي بعبّي بنزين بسيارتي، ما بقدر إجي عالمحكمة»، تقول المساعدة القضائية فاطمة بحرقة، مستغربةً «كيف بيقدر بعض الموظفين الحضور يومياً إلى المحاكم»، مشككةً في مصادر الدخل التي يتقاضونها، والتي تعتمد، على الأغلب، على «البرّاني»!

انقر على الصورة لتكبيرها

وإلى تكاليف بدلات النقل التي تفوق الراتب أحياناً، على الموظف تأمين «عدة شغل العدلية»، أي القرطاسية «التي لم نستلمها منذ ثلاث سنوات»، على ما يقول الموظف هادي. إذ تعاني المحاكم من شحٍ في كل «مقوّمات الشغل الأساسية». ولا يقتصر الأمر على الأقلام والأوراق، بل يتعداه إلى دفاتر تسجيل الدعاوى. فمحابر الأختام جفّت بمعظمها وبات الموظفون يتشاركون المحبرة الواحدة مع زملائهم في أقلامٍ أخرى! أما أوراق التباليغ التي تستلمها المحاكم مطبوعة من وزارة العدل، فتبخّرت، وبات تصويرها تارةً على عاتق الموظف، وتارة أخرى على عاتق المتقاضين ووكلائهم. وإذا كانت المكننة قبل الأزمة ضرورة ملّحة ومطلب العاملين في المرفق القضائي، فإن المطلب الحالي بات توفّر دفاتر الأساس لتدوين الدعاوى الواردة إلى المحكمة. وهذه الدفاتر التي هي أشبه بدفتر لتوثيق «داتا المحاكم»، بدأت تنفذ في كثير من المحاكم وتحديداً لدى أقلام النيابة العامة، حيث ثقل العمل هناك، وحيث بدأ الموظفون القيام بأعمال «الموالفة»، أي بمعنى آخر، إستخدام دفاتر أخرى أقل جدوى أو إستعمالاً من غيرها، وتبديل العناوين المطبوعة بأخرى مكتوبة بخط اليد. وكانت جرت العادة سابقاً بتجليد دفاتر الأساس للمحافظة على الأوراق بداخلها، وتالياً على المعلومات التي تحويها، وهذا ما لم يحصل منذ ما قبل الأزمة، ما يهدد بضياع المعلومات المتعلقة بالدعاوى وإستحالة متابعتها. وبالنسبة للتجهيزات المكتبية والصيانة، «فمنذ مدة تواجدي في العدلية، أي منذ أكثر من عشرين عاماً، لم تشهد عدلية بعبدا أي صيانة فعلية. الوضع مبكٍ وكارثي» يتابع هادي سارداً المعاناة اليومية داخل محكمة بعبدا، «فعدا عن انقطاع شبه دائم للتيار الكهربائي، لا تتوافر كما في الكثير من المحاكم، فيما دورات المياه خارج الخدمة. أما بالنسبة للنظافة وتوفر المصاعد الكهربائية، فهذه باتت من الكماليات والأمور الترفيهية داخل المحاكم!».
تعاني المحاكم من شحٍ في كل «مقوّمات الشغل الأساسية». ولا يقتصر الأمر على الأقلام والأوراق، بل يتعداه إلى دفاتر تسجيل الدعاوى


وما يعانيه الموظفون يعانيه القضاة، وإن كانوا أقل حضوراً في المحاكم، إذ يتجرعون سوياً، داخل جدران العدالة المتصدّعة، من ذات كأس الأيام المرّة، ما دفعهم اخيراً للجوء إلى آخر الدواء، وهو الكيّ مع السلطة، عبر إعلان الإضراب الشامل والمطلق، ما شلّ تماماً العمل داخل العدليات، وانعكس على عمل المحامين الذين انضم الكثير منهم إلى صفوف العاطلين من العمل. في لبنان بات اللجوء إلى المحاكم الخيار الأخير أمام المتقاضين لأنه... لا قضاء لمن تنادي!



قرر مجلس القضاء الاعلى دعوة القضاة العدليين الى جمعية عمومية تعقد نهار الثلاثاء الواقع في ٢٣/٨/٢٠٢٢ الساعة الحادية عشرة قبل الظهر في قاعة محكمة التمييز