في أوائل التسعينات، تعاملت الدولة اللبنانية مع المولدات الكهربائية الخاصة كقطاع هجين، ورفضت تشريعه استنادًا إلى المادة الرابعة من المرسوم الرقم 16878 الصادر سنة 1964، والتي تقضي بحظر توزيع وبيع الطاقة على الأراضي اللبنانية إلا عبر شركة كهرباء لبنان. لكن، مع تراكم العجز الكهربائي في الدولة، حلّ القطاع الخاص تدريجيًا مكان الدولة وأصبح يستورد ويوزع ويبيع سنويًا أضعاف ما تستورده من مادة المازوت بحسب أرقام مديرية النفط في وزارة الطاقة والمياه. ومع رفع مصرف لبنان الدعم عن أسعار المحروقات في آب 2021، شبّت أزمة المولدات بعد توقف المصرف عن تمويل استيراد المازوت للشركات بنسبة 85%. بحسب الأرقام الصادرة عن الجمارك. ما أدى إلى تزايد كلفة تعرفة المولدات على المواطنين. وتكللت الأزمة مؤخرًا مع نشوب الحرب الأوكرانية - الروسية وارتفاع سعر برميل النفط العالمي، فأصبح اللبنانيون يدفعون فواتير عالية شهريًا للمولدات الخاصة. بدورها تواصل مديرية مصلحة حماية المستهلك عبر موقعها الالكتروني نشر محاضر الضبط بحق المخالفين من أصحاب المولدات لجدول التعرفة الرسمي الصادر عن وزارة الطاقة والمياه الذي يحدد تسعيرة الكيلوواط، والمخالفين لبلاغ وزير الاقتصاد السابق رائد خوري (رقم 4/1/ أ.ت) القاضي بإلزامية تركيب العدادات للمشتركين. لكن على مستوى الشارع اللبناني، تظهر مخالفات التعرفة الرسمية كحالة عامة تكاد تكون طبيعية. ففي حين حددت وزارة الطاقة والمياه في النصف الأول من آذار الماضي كلفة توليد وتوزيع الكيلوواط بـ 8,518 ل.ل عن كل كيلوواط/ ساعة للمناطق على ارتفاع أقل من 700 متر و9,370 ل.ل عن كل كيلوواط/ ساعة للمناطق على ارتفاع أكثر من 700 متر. يظهر من خلال استطلاع أجرته «القوس» أن تعرفة العداد عن شهر آذار في منطقة برج الشمالي (محافظة الجنوب)، مثلًا، وصلت إلى 13,000 ل.ل فيما وصلت التعرفة في الصرفند إلى 12,000 ل.ل. أما بعلبك فوصلت التعرفة فيها إلى 22,000 ل.ل عن كل كيلوواط/ساعة بحسب مقيمين في تلك المناطق.

اللامساواة الكهربائية تصل إلى بيروت
ليست اللامساواة في بيع وتوزيع الطاقة جديدة على اللبنانيين. فبحسب ورقة أعدّها الأستاذ في مركز البحوث الدولية إيريك فرديل بعنوان «دعم الكهرباء غير المرئي: الامتياز البيروتي»، فإن شركة كهرباء لبنان كانت تعتمد سياسة لا متساوية في فرض أسعار الكهرباء وساعات التقنين بين المناطق اللبنانية. يتكرر المشهد ذاته في القطاع الخاص، مع اختلاف النوايا، كون الأخير يبتغي الربح بشكل أساسي. لكن تفاوت التعرفة الحالي بين المناطق اللبنانية لجهة المولدات لا يعني أنه يمكن تعميم أي من الأرقام المذكورة أعلاه على المنطقة بشكل كامل. وبسبب تعذر القيام بإحصاء يشمل المناطق اللبنانية. أجرت «القوس» مسحًا لمنطقة بيروت التي كانت تتمتع بامتياز لجهة الساعات التي تتلقاها من شركة كهرباء لبنان بعكس مناطق الأطراف. إذ كانت بيروت تتصدر المناطق اللبنانية لجهة حصولها على حوالي 21 ساعة تغذية حتى عام 2014 بحسب ورقة فرديل.

ثلاثة أشخاص من أصل عشرة لا يحصلون على ساعات تغذية كافية
يحصل 66.5% من المواطنين الذين أجابوا على الاستمارة ويقطنون في مدينة بيروت وضواحيها على أكثر من 10 ساعات تغذية، فيما يحصل البقية بنسبة 33.5% على أقل من 10 ساعات تغذية في النهار الواحد. وذلك يعني أن من بين كل 10 أشخاص أجابوا عن الاستمارة يحصل 3 منهم على ساعات تغذية قليلة مقارنة بغيرهم من المواطنين. وبينما يمكن لهؤلاء الثلاثة أن يكونوا من معتمدي سياسة ترشيد الاستهلاك الشخصي للكهرباء، يوجد احتمال أن يكون التقنين مفروضًا عليهم أيضًا إذا كانوا مشتركين عن طريق «المقطوعية» تحت حجة «غلاء صفيحة المازوت أو عدم توفرها».

من 85 دولاراً إلى 150 دولاراً: التعرفة متروكة لاستنسابية صاحب المولد
تختلف التعرفة الشهرية التي يتقاضاها صاحب مولد عن آخر. إذ يفيد 55.6% من المشتركين عن طريق العدادات بأنهم يدفعون ثمناً للكيلو واط/ساعة تعرفة أعلى من التعرفة الرسمية (8,518 ل.ل) المحددة من قبل وزارة الطاقة والمياه. كما أن المشتركين عن طريق «المقطوعية» يدفعون عن القدرة نفسها مبالغ كبيرة وغير متجانسة. ففي حين يدفع مشترك 130 دولاراً شهرياً عن قدرة 5 أمبير، يدفع مشتركان آخران عن القدرة نفسها 90 دولاراً و85 دولاراً. الأمر ذاته ينطبق على عدم تجانس القدرة مع التعرفة، ففي حين تبلغ فاتورة مشترك بقدرة 10 أمبير مليون ليرة تصل فاتورة مشترك آخر بقدرة 5 أمبير إلى ثلاثة ملايين ليرة. يرجع أصحاب المولدات قيمة التعرفة لعدد ساعات التغذية «الفاتورة الأعلى تعني ساعات تغذية أكثر»، يشرحون لـ«القوس». لكن المقابلات الميدانية تثبت عدم دقة تلك المعادلة في جميع الحالات. وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن تحديد التسعيرة بالدولار كما يحصل في بيروت مؤخرًا مخالف للمواد 5 و 25 من قانون حماية المستهلك (رقم 659/2005) اللتين تنصان على تحديد تسعيرة الخدمات والبضائع بالليرة اللبنانية وليس بالعملات الأجنبية.



3 من أصل 10 لا يحصلون على حقهم في تركيب العداد
يمتنع جزء من أصحاب المولدات في بيروت وضواحيها عن تركيب العدادات للمشتركين بنسبة 34.3% من الذين أجابوا عن الاستمارة. وذلك يعني أنه من كل 10 أشخاص أجابوا عن الاستمارة، يرفض أصحاب المولدات تركيب العدادات لـ 3 منهم على الأقل. علمًا أن «المقطوعية» قد تكون مكلفة على ذوي الاستهلاك الكهربائي الخفيف من موظفين وطلاب وغيرهم، لكن لا يتم الاستجابة لحقهم القانوني في تركيب العدادات للاعتبار التالي:
تواصلت «القوس» مع عباس هاشمن وهو أحد أصحاب المولدات في منطقة مار الياس، للاستفسار عن سبب امتناع أصحاب المولدات عن تركيب العداد. عبّر هاشم عن استهجانه لقرار تركيب العدادات «الفجائي»، واصفًا إياه بغير العادل في ظل التضخم الاقتصادي الذي يعيشه البلد، خصوصًا أن القرار حمّل كلفة تركيب وشراء العدادات لصاحب المولد. فتنظيم هذا القطاع لم يكن من «اهتمامات الدولة قبل صعود الدولار» بحسب هاشم. ويوضح أن القرار (رقم 4/1/ أ.ت)، بعكس التعديل الذي أدخله عليه الوزير أمين سلام، «لم يجبر أصحاب المولدات على تركيب العدادات بل طلب منهم أن يقدموا للوزارة نموذجًا يحمل توقيع المشتركين الذين رفضوا الاشتراك بالعدادات والنماذج لا تزال موجودة، بينما يحمّل التعديل الجديد إلزامية تركيب العدادات لصاحب المولد».
قبل سنتين ونصف سنة تقريبًا، كانت الوظيفة العامة حلم كثيرين في لبنان، خصوصاً من الطبقة الوسطى والدنيا


ما يتحدث عنه صاحب المولد يعود إلى سنة 2018، بعد انسحاب الدولة من معركتها التي حاولت شنها على أصحاب المولدات بالقرار رقم (4/1/ أ.ت)، وانتهى الأمر بالتسوية التي ذكرها بعد أن احتج أصحاب المولدات على القرار وقطعوا التغذية عن المواطنين. في تلك الفترة قرأت بعض الوسائل الإعلامية المشهد كما قرأه أصحاب المولدات على أنه «انتقام» الدولة من عجزها، كونها لم تهيئ القرار للتنفيذ وتراجعت عن تطبيقه بالشكل المفروض فيه. امتلك أصحاب المولدات سلطة قول لا للدولة عندما كانت تغطي شركة لبنان حوالي 12 ساعة من التغذية الكهربائية بحسب الشركة، ويمتلكون السلطة نفسها، وربما أقوى منها الآن، في ظل انقطاع التيار الكهربائي تمامًا في بعض الأيام.



المادة 25: من قانون حماية المستهلك
يتوجب على المحترف وعلى مقدم الخدمة تسليم المستهلك فاتورة يدرج فيها البيانات التالية:
اسم المؤسسة ورقم تسجيلها في السجل التجاري وعنوانها وتعريف السلعة أو الخدمة ووحدة البيع أو التأجير وثمنها والكمية المتفق عليها ومقدار الضرائب والرسوم المستوفاة والقيمة الاجمالية للفاتورة بالعملة اللبنانية وتاريخ اصدارها.


المادة 119: من قانون حماية المستهلك
يعاقب بالغرامة من خمسة عشر مليونا إلى ثلاثين مليون ليرة لبنانية كل من يخالف أحكام أي من المواد 10 و25 و52 و53 و54 من هذا القانون


المادة 2-3: من تعميم رقم 10/1 الصادر في 19/3/2011
تقدم شكاوى المواطنين المتعلقة بالمولدات الكهربائية إلى البلديات.
تقوم كل ادارة أو مجلس محلي (بلدية، الخ...)، ضمن نطاق صلاحيتها، بمعالجة الشكاوى الواردة إليها وفرض التدابير المحلية لمنع التلوث الناتج عن تشغيل واستثمار المولدات الكهربائية.


الفهم الزائف للحق في الكهرباء: فلنسرق من صاحب المولد
يؤمن 43% من المشتركين الذين أجابوا عن الاستمارة بأن أصحاب المولدات مدعومون من جهة حزبية/ سلطة تجعلهم محميين ولا تطالهم المحاسبة. قد يرجع تفسير المشتركين هذا إلى مواقف حياتية حصلت معهم، ويمكن ربط المشهد مع اعتقاد النسبة الساحقة منهم بأن البلديات لا تمارس دورها الرقابي على أصحاب المولدات مما يعكس وجود علاقة من المحسوبية والزبائنية. الأمر الذي يمكن أن يثير «نقمة» على أصحاب المولدات خصوصًا في ظل رفعهم الفاتورة بشكل دائم. ولذلك يعمد بعض المشتركين عن طريق «المقطوعية» إلى السرقة من صاحب المولد الكهربائي، عبر التعليق على الشبكة الكهربائية، أو التلاعب بحساسية الديجانتير من خلال ضربه بـ«إبرة الملح» التي تؤدي إلى تكلس الأجزاء الميكانيكية للديجانتير ما يجعله «غير محدود» بإعطاء قدرة طاقة السحب، أو عبر تزوير القيمة الفعلية للديجانتير وبالتالي دفع تعرفة أقل من كمية السحب. وقد يلجأ البعض أيضًا إلى تفكيك الديجانتير والتلاعب بأجزائه من الداخل. وإن كان فعل المواطنين هذا غير مبررقانونيًا لكنه يبقى فهمًا زائفًا لـ«الحق في كهرباء 24/24».


الطاقة الشمسية للميسورين فقط؟
مع أن ميسوري الحال في لبنان وحدهم من عمدوا إلى تركيب الطاقة الشمسية بـ«الفريش دولار»، كون 82% من سكان لبنان يعانون من فقر متعدد الأبعاد بحسب إحصاءات الاسكوا، إلا أنه من الظاهر تنامي اهتمام شعبي بالاستعانة بالطاقة الشمسية، لا سيما أن عبارة البحث عن «الطاقة الشمسية في لبنان» على غوغل تتزايد بشكل كبير على امتداد شهر نيسان الماضي. وبحسب الاستمارة التي أجرتها «القوس» فإن 68.3% من المشتركين يرجحون بأنهم سيعمدون إلى الاستعانة بالطاقة الشمسية لكن الأغلبية (70.8%) لا تمتلك القدرة المادية للاستعانة بها، كما أن النصف (50.6%)، منهم من لا يمتلكون المساحة اللازمة لها. تظهر هذه الأرقام عن وجود رغبة عالية في الاستغناء عن المولدات. لكن في ظل هذه الموجة، ومع تفرّق الجماهير أمام أصحاب المولدات، يتحدث البعض عن أن هذا الواقع الجديد يمكن أن يجبر أصحاب المولدات على خفض تعرفتهم والتخفيف من هامش ربحهم. لكن في الوقت عينه، قد لا يكون هذا التقدير دقيقًا بسبب غياب التخطيط اللوجستي والبنيوي في المدن المكتظة، كما يمكن لموجة الطاقة البديلة أن تكون إنذارًا لمشهد طبقي بين الناس ما لم تأخذ مبادرتها من الدولة أو تتحقق الوعود بتحسين القطاع العام مع قدوم الفيول العراقي.


الحل تقني أم سياسي؟
لا يمكن الحديث عن عدالة كهربائية إلا بحصر هذه الخدمة مجددًا في أيدي الدولة. وهو ليس بالأمر الصعب بحسب ما يتداوله الاختصاصيون إذا ما كانت هناك إرادة سياسية بذلك. فالحكومات اللبنانية كانت أمام عدة فرص روسية وصينية وفرنسية وإيرانية وألمانية للاستثمار في قطاع الكهرباء. وحتى الآن، لا يزال اللبنانيون على أمل تحقيق وعود استجرار الكهرباء من هنا وهناك بعد وقبل الاتفاقية مع البنك الدولي. في ظل يأس الدولة من قدرتها على نهوض سيادي بقطاع الكهرباء الذي يستوجب بحسب وزير الطاقة وليد فياض «تحسين الجباية مع خفض نسبة التعديات ورفع التعرفة الرسمية التي ستظل أقل من تعرفة المولدات الخاصة بمعدّل 70 في المئة».


القرار رقم 4/1/ أ. ت
تدعو الوزارة جميع المشتركين لدى المولدات الكهربائية الخاصة الى التعاون التام مع اصحاب المولدات وتأمين العدادات خاصتهم في حال ارتأوا ذلك، وكذلك تأمين مكان مخصص لتركيب العدادات في الاقسام المشتركة للمبنى حيث يمكن لصاحب المولد ان يصل اليه في اي وقت، على ان يكون داخل علبة شفافة مقفلة بقفلين يملك كل من المشترك (او من ينوب عنه) وصاحب المولد مفتاحا لاحد القفلين، مع الاشارة الى ان كلفة تركيب العداد تقع على عاتق صاحب المولد.


البلديات: نحن عاجزون بصراحة ومشكلة هذا القطاع تعود لبدايته
يعتقد 75.8% من المواطنين الذين أجابوا عن الاستمارة أن البلديات لا تمارس دورها الرقابي لضبط عمل المولدات. وفي حين ينتظر المواطنون من البلديات أن «تضرب بيد من حديد» لضبط القطاع، يعبّر رئيس اتحاد بلديات صور حسن دبوق لـ«القوس» عن استيائه من تقاذف المسؤوليات وتحميلها للبلديات في هذه المسألة، لافتًا أن موضوع تعرفة المولدات «معقّد» ولا تمتلك البلديات القدرة على ضبطه، إذ «لا يوجد لامركزية إدارية تعطيها القدرة على التصرف مع أصحاب المولدات من دون هيكلية إدارية». يشير دبوق صراحةً إلى عجز البلديات أمام أصحاب المولدات، ويؤكد أن هناك عشرات محاضر الضبط الصادرة بحقهم، لكن «لا يمكننا معاقبتهم بأكثر من محاضر الضبط خصوصًا أننا لا نمتلك قدرة على التعامل مع المولدات في حال مصادرتها». يعرف بعض أصحاب المولدات نقطة الضعف هذه، فيلجؤون إلى ممارسة نوع من الابتزاز لجهة إطفاء المولدات وهذا ما «لا تستطيع البلديات أن تحمله للمواطن». ويضيف دبوق أن المشكلة تعود إلى أصل تنظيم هذا القطاع الذي بات يحتاج إلى «قانون مقونن ينظم علاقة أصحاب المولدات بالدولة وليس فقط بالمواطنين»، مبديًا استعداد البلديات للوقوف إلى جانب الدولة في فرض القانون، «لأن القرارات المنفردة لا تكفي». فصحيح أن وزارة الاقتصاد أصدرت قرارًا بإلزامية تركيب العدادات لكن القرار «لم يترافق مع بيئة تفرض تطبيقه من نيابة عامة ورجال قوى الأمن ووزارة اقتصاد وقضاء مستقل»، مشيرًا إلى أن «المواطنين أنفسهم يجب أن يساعدوا البلديات في الامتناع عن تسديد التعرفة العالية ويقفوا وقفة واحدة». كلام دبوق يثير الجدل القديم الذي حركه الحقوقيون سنة 2017، مع اعتراضهم على قرار وزير الاقتصاد آنذاك، ودعوتهم لربط قطاع المولدات بنطاق البلديات وليس الوزارة. ربما تفسر هذه البداية الارتباك الحاصل في التعامل مع قطاع المولدات إلى الآن واللامساواة التي يسببها النفس التجاري فيه، فالدولة لم تعترف بهذا القطاع عبر قانون، كما لا زالت تنظر إليه بأنه غير شرعي رغم قراراتها القاضية بمحاولة ضبطه.