تصادفت في شهر نيسان من هذا العام مناسبات تجمع بين الديانات السماوية الثلاث. فقد حلّ شهر رمضان مع بداية الشهر، وهذا الأسبوع احتفل المسيحيون بعيد الفصح المجيد، فيما يحتفل اليهود، في الخامس عشر من نيسان كل عام، بعيد الفصح الخاص بهم، أو ما يسمّى بالعبرية «بيساح». وهي احتفالات تستمر سبعة أيام لمن يستوطنون فلسطين، وثمانية لمن هم خارجها. وتغتنم بعض الجماعات الصهيونية المتشددة هذه المناسبة للدعوة إلى إقامة مراسم دينية وتقديم قرابين داخل المسجد الأقصى وفي باحاته، في استغلال واضح للذرائع الدينية من أجل تهويد الأقصى ومحو هويته العربية الإسلامية. وبالفعل، بدأت وفود المستوطنين المتشددين بتنفيذ اقتحامات للمسجد الأقصى مبكراً هذا الشهر، بتحريض من الحاخامات ورجال الدين الصهاينة وجماعات متطرفة تعرض حوافز مادية. فقد قدّمت ما تسمّى بـ«جماعات الهيكل» مكافآت مالية تصل إلى آلاف الدولارات لمن يقدّم الذبيحة في الأقصى خلال الفصح وحوافز أخرى لمجرد المحاولة، ما يشجّع المستوطنين المتطرفين على المشاركة في هذه الاقتحامات.


وتجري هذه الاقتحامات بحماية الشرطة الإسرائيلية وأجهزتها وتشكّل خطراً ليس على المسجد الأقصى فحسب، بل أيضاً على المرابطين والمقدسيين ممن يتعبّدون ويقضون شهر رمضان في المسجد وفي باحاته. إذ أن من عادة المقدسيين مشاركة موائد إفطارهم في باحات المسجد وقضاء الليل فيه في قراءة القرآن. وتطال اقتحامات الصهاينة وبطشهم كلّ من في الأقصى أو حوله، إضافة إلى العنف الوحشي الذي تمارسه شرطة العدو على المصلين، بالضرب واستخدام قنابل الغاز والاعتقال، أثناء محاولاتها لإخلاء باحات المسجد قبل اقتحامات المستوطنين التي بلغت ذروتها يوم الخامس عشر من نيسان، مع بداية «العيد»، إذ تعرض المقدسيون المعتكفون في الأقصى إلى أشد أنواع العنف وانتهاك حقهم في العبادة وممارسة شعائرهم، بعدما دخلت الشرطة عنوة إلى داخل المسجد وهاجمت المصلين بقنابل الغاز وضربتهم واعتقلت بعضهم.
ليست مشاهد اقتحام المساجد وترهيب المصلين جديدة. فإلى الاقتحامات المستمرة منذ سنوات، تم إحراق المسجد الأقصى عام 1969، كما تعيد بعض مشاهد العنف الذاكرة إلى مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، عندما فتح مستوطن النار على مصلين وقتل العشرات منهم.



القانون الدولي وحريّة العبادة
تتناول المواثيق والمعاهدات الدولية الحق في حرية العبادة كواحد من الحقوق الأساسية التي تصنّف ضمن الحقوق المدنية التي تضمن للأفراد حرية اعتقادهم وممارستهم للعبادات الدينية. وتنص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حريّة الفرد في إقامة الشعائر وممارستها والتعبير عنها سواء بمفرده أو ضمن جماعة. كما جاء في المادة 5 من اتفاقية الأمم المتحدة بشأن القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1969، ما يفيد ضمان حق كل إنسان، بغضّ النظر عن لونه وعرقه، في حرية الفكر والعقيدة والدين. وأكّدت المادة 18 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 حق كل إنسان في إظهار دينه ومعتقده وممارسة الشعائر الدينية، إلا انّ ما يميز هذه المادّة هو ما جاء في الفقرة 3 بعدم جواز فرض قيود على حرية العبادة إلا عبر ما يفرضه القانون لحماية السلامة العامة أو النظام العام. وقد تلت هذه المواثيق قرارات أممية تؤكد على أهمية صون وحفظ هذا الحق، كما جاء في قرار الأمم المتحدة بشأن مكافحة قذف أو ازدراء الأديان بتاريخ 2005.
تتناول المواثيق والمعاهدات الدولية الحق في حرية العبادة كواحد من الحقوق الأساسية التي تصنّف ضمن الحقوق المدنية التي تضمن للأفراد حرية اعتقادهم وممارستهم للعبادات الدينية


على أي حال، فإن الحق في حرية العبادة لا يزال محل نقاش ومفاوضات خاصة، في ظل اختلاف الايديولوجيات ووجهات نظر الأنظمة السياسية، حول محل الدين من الدولة. إذ أنّ احترام الأديان يأتي في مرتبة متقدّمة في الدول ذات النظام السياسي الديني، من دون أن ينسحب ذلك على الدول والأنظمة السياسية العلمانية. ولكن، رغم الاختلاف حول منزلة الدين في الدولة وترتيب الحقوق الخاصة به، فإن الخطاب الليبرالي السائد يعزّز من حرية الفرد في ممارسة حقه في الفكر والوجدان والعبادة أيضاً كشكل من أشكال الحرية الفردية التي يجب حمايتها وضمانها.

تواطؤ الخطاب الإنساني
تدّعي دولة الاحتلال أنها ديمقراطية تحترم الديانات على اختلافها. إلّا أنّ الواقع في القدس - مهد الديانات السماوية - يشي بعكس ذلك تماماً. ففي سبيل مشروعها الصهيوني، تقوم هذه الدولة بحماية اليهود المتشدّدين الذين يتسلّحون بالخطاب الإنساني حول حقّهم في حرية العبادة في مشهد مسرحي ساخر. ففي وقت تهاجم سلطات الاحتلال المسلمين في الأقصى وتحرم المسيحيين في الضفة وغزة والشتات من زيارة كنيسة القيامة في القدس، ترافق أجهزة الشرطة المستوطنين الذين يقتحمون الأقصى وتشكّل درعاً حامية لهم خلال تعدّيهم على مقدّسات الفلسطيني. وفي ظل تخاذل وصمت أنظمة الأمم المتحدة لا يتم تفعيل حق العبادة للفلسطيني في موطنه، بل يتم تبنّي الرواية الإسرائيلية التي تبرّر من خلالها قمع المصلّين بحفظ النظام العام والتخلّص من آلاف «المشاغبين».

تمسك الفلسطينيين بحقهم في العبادة كجزء من مشروع التحرر الوطني من دون الاعتداء على حرية العبادة للجميع


وتبنّي المستوطين للغة الليبرالية عبر تحريضهم على تنفيذ الاقتحامات باعتبار أنها حق من حقوقهم في ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم، يساهم في تفعيل التواطؤ بين النظام العالمي لحقوق الإنسان والمشروع الاستعماري في المنطقة. ويمكن القول إنّ ما نشهده اليوم في القدس هو تكثيف لجوهر المشروع الصهيوني الاستعماري الذي يقوم على إلغاء أصحاب الأرض والإعلاء من قيمة المستعمِر وخصاله وحتّى تديّنه على حساب المستعمَر - الآخر.

خاتمة
تمسّك الفلسطينيين أصحاب الأرض بحقّهم في العبادة وصون مقدساتهم حق لا يوازي، بشكل من الأشكال، حق المستوطنين في ممارسة شعائرهم في القدس التي يحتلونها ويخططون لاستبدالها بهيكلهم. ورغم أنه قد يساء فهم الواقع في القدس على أنّه صراع أديان، إلّا أنّ تمسك الفلسطينيين بهذا الحق هو جزء من مشروع التحرر الوطني الذي من خلاله يعود الحق إلى أصحابه من دون الاعتداء على حرية العبادة للجميع، بعكس المشروع الصهيوني الإلغائي. وبالتالي، فإن مساندة حق الفلسطيني في العبادة وحماية مقدساته هي التطبيق الفعلي لحرية العبادة المنصوص عليه قانوناً بحسب المواثيق الدولية في مواجهة منطق العدوان.