■ الأب اميل يعقوب مجاعص
في ربيع كل سنة نعيد إحياء الأسبوع العظيم في كنيستنا كأنها أحداث تجري اليوم في المكان ذاته الذي حدثت فيه قبل أكثر من ألفي سنة في قلب فلسطين. تبدأ هذه الأحداث الأليمة عشية يوم الشعانين في مدينة أورشليم، وتبلغ ذروتها يوم الجمعة الحزينة التي تعلنها كنيستنا الأرثوذكسية جمعة عظيمة لأن فيها أطلق يسوع المسيح الروح من على الصليب، فامتلأ الكون بإشراقات القيامة، وسادت البشرية مشاعر متناقضة بين إيمان وجحود، تسليم واضطهاد، حب وكراهية، وتستمر الطعنات في جنبه إلى ما شاء الإنسان الشرير في التسلط والنكران. ولو قدر للدماء في التاريخ أن تتجمع في مكان واحد لشكلت بحرا أحمر قانيا يغطي وجه الأرض.

(سليمان منصور ــ القدس المحتلة)

يعمد كثيرون في العالم، وأخطرهم قادة الدول التي قامت على الحضارة المسيحية، إلى مسح هذا الوجه للمسيح، وجه المحبة الإنسانية التي من خلالها يعرف الكون من هم تلاميذ المسيح، بمنديل علم نجمة سداسية فرضوها بالاغتصاب والقوة على أرض وشعب لما يزل يعاني من ظلم مرير بلا أدنى اعتبار للعدالة الإنسانية والحريات التي يتشدقون بها في دساتيرهم وكتب قوانينهم المرفوعة على الراحات. وكأن هذه الدساتير والقوانين موجهة لعنصر بشري دون آخر، لأمثال الفريسيين والصدوقيين والكتبة، لمجامع اليهود ورؤساء كهنتهم الذين شبههم المسيح بالتينة الخالية تماما من الأثمار الروحية فلعنهم مع التينة التي يبست، ولا تزال هذه اللعنة قائمة حتى اليوم ما دامت هذه الثمار الروحية والإنسانية غائبة عن مجامعهم وخططهم الحاضرة والمستقبلية، ذلك أن عنصريتهم «السامية» خاصة بهم وحدهم، ومبرر للطعن بالذي يعترض طريقهم وخططهم الإلغائية، ذاك «معاد للسامية»، وقوانينهم تبيح لهم اضطهاده والتنكيل به وقتله، داخل فلسطين وفي كل مكان تطالها أيديهم.
يعمدون إلى اعتبار هذا الأسبوع العظيم ذكرى من الماضي حدث مرة واحدة في التاريخ، وربما لم يحدث أبدا، كأنه رواية حيكت في غفلة من الزمن أو هي رمز من الرموز التعبيرية لأخذ العلم والعبر، في حين أساطير العهد القديم من تاريخ اليهود ترتفع فوق الرؤوس كأنها حقائق ثابتة، تبناها المسيحيون الجدد في الغرب لأهداف سياسية بحتة، وأخطرها فكرة إعادة بناء هيكل سليمان، بعد تهديم المسجد الأقصى في أورشليم القدس. لقد انطلق فكر ديني مسيحي مشوه يحض على إعادة بناء هيكل سليمان باعتبار أن عودة المسيح إلى الأرض وخلاص المؤمنين به لن تتم دون إعادة بناء هذا الهيكل ليظهر فيه المسيح ويكتمل به الإيمان المسيحي! إن هذه الفكرة للمسيحية المشوهة، لم تعد تقتصر على المسيحيين الجدد من أتباع الكنائس الإنجيلية المختلفة، بل تجد من يؤمن بها من أبناء الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية بسبب آلاف الرسائل والتنبؤات المخترعة من قبل رائين ورائيات مزروعين بين الناس. من هنا أهمية الوقوف سدا منيعا أمام هذه الأفكار الهجينة ووضع حد ديني مسيحي لكل من يعمل على تهديم المسجد الأقصى بحجج واهية لا تمت بصلة إلى اللاهوت المسيحي.
وقفة رجال الدين المسيحيين الصادقين مع أنفسهم وشعبهم ومعلمهم الأول والأخير

وما وقفة رجال الدين المسيحيين الصادقين مع أنفسهم وشعبهم ومعلمهم الأول والأخير؛ يسوع المسيح إبن الإنسان الذي تألم ولما يزل يتألم على ظلم البشر واستباحة المكان والزمان لعنصرية «سامية» مزيفة، أمثال المطران إيلاريون كبوجي الخالد الذكر، والمطران حنا عطالله الحاضر دائما في حمل صليب شعبه، ورفع الظلم والقهر عنه، إلا بطولة تستحق التكريم والتخليد، في مسيرة متواصلة لا نهاية لها إلا برضوخ السلطة القاهرة والاعتراف بالحق الفلسطيني على أرضه، أرض آبائه وأجداده، وهي أرض كل أبنائها من مختلف الأديان والطوائف الذين يؤمنون بالحق والعدل والخير العام. آن لصوت الحق والعدل والخير أن يرتفع في وجه أصحاب الخطط المدمرة للحجر والبشر في فلسطين، لأنها وحدها طريق الجلجلة التي تبلغ أقصاها مع إطلاق الروح في الكون يوم الجمعة العظيمة؛ ليتبعها دحرجة الحجر عن باب القبر، وفرح المؤمنين بالقيامة المجيدة.