للحديث في هذه المسألة، علينا ابتداءً أن نوضّح ما الذي يعنيه أن يكون الفلسطيني مجبراً لا مخيراً، وفي أي الأحوال تسقط الحجج المبرّرة التي يعتمد عليها الشخص الداعي إلى التطبيع. في فلسطين هناك المخيّر والمجبر، فمن يرسم هذه الحدوaد؟ وكيف نستطيع أن نفهم بالفعل كيف لفلسطيني، في ظروف مختلفة، أن يعتبر خائناً ومطبّعاً، أو أن تضطره الظروف فتسقط عنه هذه التهم؟ القضية الفلسطينية على بساطتها تتسم بواقع معقّد. جاء هذا التعقيد نتيجة التركيبة الاستعمارية المعقّدة ومفاعيلها على مدى عقود من سياسة التفتيت. وفي منتصف هذا التعقيد يقف الفلسطيني الخائن في ما تبقى من حدود عام 1967 خلف ستار «أوسلو» بتنسيقه الأمني. ورغم أن البعض قد يناقش كونه مجبراً لا مخيراً، من حيث الحاجة إلى تأسيس وجود سياسي فلسطيني على أي بقعة من أرض فلسطين بعد تخلّي الانظمة العربية عن احتضان الثورة الفلسطينية على أراضيها، تحديداً بعد اجتياح لبنان عام 1982، إلّا الشعوب العريية في الواقع قد أثبتت احتضانها لقوى الثورة في كل من الأردن ولبنان. وكما أنّ للتاريخ كلمته في إنصاف دم الثائرين الذين شهد رفاقهم على خيانة قادتهم لدمهم منذ السبعينيات وقبل أن يحدث أي من أسباب «الإكراه» التي يُبرّر «السلام» الشهير بها. إذاً يمكن القول إن القاعدة الأساسية في الحكم قد تبنى على القاعدة الفقهية الشهيرة «الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً». فإذا زالت أسباب الإجبار يصبح الإنسان مخيراً ومطبّعاً باختياره.

العامل الجغرافي
جغرافياً، لدى الحديث عن الفلسطيني المجبر، فنحن بصدد الحديث عن فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948. تنص حركة المقاطعة BDS على أنّه، وكون التطبيع يحدث في العلاقات الطوعية وليس القسرية، فإنّ معايير مناهضة التطبيع والمقاطعة يجب أن تراعي خصوصية هذه العلاقات القسرية خاصّة في أراضي 48. تأتي هذه المتغيرات في طبيعة العلاقات نتيجة اختلاف شكل الاستعمار وتبعاته وممارساته للفصل العنصري. فشكل الاستعمار يختلف في أراضي 1948 عنه في أراضي 1967 وكذلك عنه في القدس. فيكون الفلسطيني في الداخل مجبراً لا مخيّراً على الكثير من الممارسات اليومية التي تحتّم تعامله مع المحتل، وتوجب حقيقة تواجده في مناطق يحكمها الاسرائيلي أن يتعامل مع أجهزته ومنظومته القائمة بصورة وزارات وشرطة ومحاكم، وبالتالي من المحتّم على الفلسطيني المقيم في أراضي 48 أن يتعامل مع هذه الجهات ليضمن حقه في تسجيل اسمه واسم عائلته وأبنائه للاستفادة من الخدمات التي تقدمها «الدولة». ومن أكثر الأمثلة على هذه التعاملات والـ«خدمات» السجل المدني الاسرائيلي الذي يحصل الفلسطيني من خلاله على بعض حقوقه كحقه في الإقامة والطبابة والتعليم وحقه في جواز السفر. للمتمعن في هدف هذه التعاملات أن يرى المصلحة الجمعية كجزء من المصلحة الفردية الخاصة بكل فلسطيني في الداخل المحتل. ففي الظاهر قد يبدو الأمر مصلحة فردية بحتة، ولكن وفي الحقيقة فإنّ من الواجب وطنيًاً على كل فلسطيني في الداخل ان يخضع لمثل هذه التعاملات التي تضمن حقه في بيته وملكه وأرضه، وتمنع من حدوث المزيد من التهجير والتهويد للفلسطينيين في الداخل - حتى لو بشكل مؤقت -، وكما يشاع بين الفلسطينيين في الداخل أن «الوجود في حد ذاته مقاومة». وتخفّ وطأة الإجبار كلما ابتعدنا بالجغرافيا عن المكان، فظروف الإجبار تتفاوت بحسب الحالة وخصوصية الجغرافيا.
أمّا فلسطينيو الضفّة، فتقوم سياسية المحتل على حصرهم في مناطق ضيقة تضمن عدم اختلاطهم بالمستعمرين لحماية أولئك من هبّات الجماهير الشعبية، وفي الوقت نفسه تضمن استمرار حاجة الفلسطينيين بقيادة السلطة إلى التعامل مع المحتل من أجل توفير احتياجات المواطن من مياه وكهرباء وحتّى تأشيرات دخول وخروج من البلاد. فدولة السلطة ليست منزوعة السلاح بالمعنى الحرفي، ولكنها بسلاحها الموجود خاضعة ومساومة للمحتل. فمنذ نشأتها وهي تدرك ارتباطها بالكيان المحتل ارتباطا وجودياً ومصلحياً. ولذلك، فإن التطبيع قد يكون نهجاً في تعامل القيادات الفلسطينية في الضفة. وكما أسلفنا، فقد يعتبر البعض أنّ في هذا إجباراً لا حول للسلطة الفلسطينية فيه ولا قوة، وبالتالي تسقط تهمة التطبيع. يظل هذا الأمر مرهوناً لتقدير القارىء للتاريخ المتمعّن في مجريات أحداثه. وفي كلا الحالتين، فإنّ الخيانة أمرٌ ليس بغريب الحدوث لدى أية حركة تحرّر مقاومة للاستعمار، وعلى هذا، لنا في تاريخ حركات التحرر شواهدّ وعبر.
أدّى الانقسام السياسي الفلسطيني منذ عام 2006 إلى تشكيل حكومتين فلسطينيتين، الأولى تابعة لفتح في الضفّة وأخرى تابعة لحماس في غزّة. غزّة التي تدفع ثمناً أغلى للكرامة حرباً تلو أخرى، زادها جبروت المحتل ألماً وقهراً وأخضعها لحصار امتد لسنوات، فيه من تجويع وتضييق ما لا يطيقه شعب. يؤدي الحصار وويلات الحرب إلى خلق علاقات قد نعتبرها نديّة أحياناً ما بين القيادة في غزة والمحتل. هذه العلاقات تحمل مفاوضات ومساومات من أجل تمكين حماس من الحكم في غزة وأحياناً للتخفيف من قبضة الحصار على الفلسطينيين. تتم المفاوضات من خلال وسيط لا يمكن معه أن يتحقق أي نوع من التطبيع. كما أنّ الواقع الذي يجعل من غزّة في حالة حرب دائمة مع المحتل لا يسمح بحال أن يكون هناك تطبيع، إذ أن العلاقات والتواصل بين الطرفين يكون على أساس عدائي حربي لا يعترف للآخر بحقّه.
الضرورات تبيح المحظورات/ فعن أي ضرورة نتحدث؟
من المهم بمكان أن يتضح الفرق بين الإجبار والاختيار كأساس هام للحكم على التطبيع، وأنّ العامل الجغرافي ليس وحده عاملاً في معادلة التطبيع. فمعيار الضرورة في العلاقات الضيقة عامل أساسي لا يمكن تجاهله. فإذا اتفقنا على أنّ الفلسطيني في أراضي 48 هو الأكثر إجباراً على التعامل مع المحتل وبالتالي الأقل تطبيعاً بحسب العامل الجغرافي. فإنّ الإجبار تتفاوت حدّته بحسب كل حالة على حدى، وبالتالي قد تضيق فرص التطبيع أو تتسع وفق قاعدة الضرورة. فإذا كان التعامل ضرورياً لمسائل حياتية مهمّة يضيق مجال التطبيع حتماً، أمّا وإن لم تتوافر ضرورة لتعاملات معينة تهدف إلى خلق صداقات أو علاقات شخصية فقد يقع الشخص في فخ التطبيع إذ أنّ من شأن هذه العلاقات أو الأنشطة أن تؤدي لإزالة الحواجز النفسية، وبالتالي تطبيع الاستعمار. فعلى سبيل المثال وبالنظر إلى الكيفية التي يتعامل بها الفلسطينيون في الداخل، نجد أن الحراكات الوطنية والمجموعات الشبابية تحاول خلق مساحات للفلسطينيين تقلّل من اختلاطهم بالاسرائيليين، وتشجعهم على مقاطعة المحلّات والأنشطة برعاية الاسرائيلي، وتحاول خلق بدائل تضيّق من التعاملات الحياتية مع الإسرائيلي وتحارب الأسرلة. ويشار إلى أنّ هذه الحراكات ومن خلفها المجتمع الفلسطيني في الداخل هي رأس حربة في رفض التطبيع ومجابهته. ففي بعض القرى والبلدات الفلسطينية «غير المختلطة»، يتم حصر التعامل مع الاسرائيلي من خلال البلديات والمجالس المحليّة، أمّا أهل القرية فيقصون أنفسهم قدر الإمكان. كما يمكن أن نعود بالزمن قليلا إلى هبّة مايو 2021 التي سمّيت بانتفاضة الوحدة، إذ جمعت الفلسطينيين في كافّة أماكن تواجدهم وفي أراضي 48 المحتلة، وكانت أحد أشكال الهبّة الهامّة هي إضراب الفلسطينيين في الداخل. فكان للإضراب الذي دعت له كافة الحراكات الوطنية الشعبية في الداخل أثر كبير على الروح الفلسطينية المقاومة للاستعمار في الداخل. إذ قام الفلسطينيون بالإضراب عن العمل وعقد نشاطات ثقافية وفنيّة ودعم للاقتصاد الوطني الفلسطيني.
يدلل واقع الفلسطينيين في أراضي 48 على إمكانية تجنب التطبيع حتى ولو كان المحتل يحاصرك من كل صوب ويفرض عليك وجوده من كل حدب


يدلل واقع الفلسطينيين في أراضي 48 على إمكانية تجنب التطبيع حتى ولو كان المحتل يحاصرك من كل صوب ويفرض عليك وجوده من كل حدب. فإذا استطاع الفلسطيني الذي يعد مجبراً على التعامل مع المحتل والمبرّر له في ذلك، أن يحصر وأن يقاوم هذا التعامل كي لا يقع في فخ الأسرلة؛ والمقصود بالأسرلة هو إلغاء الهوية الفلسطينية لصالح الاندماج في المجتمع الاسرائيلي. فليس هنالك ما يبرر للعربي في أي مكان آخر أن يتحجّج بالفلسطيني. وحتّى ولو اعتمد في حجته على حالات تطبيع الفلسطيني المخيّر، فهذا لا يغنيه عن واجبه كإنسان قبل أن يكون عربياً في رفض وجود المحتل وتطبيعه. فاللبناني في لبنان لا يتوافر عنده لا العامل الجغرافي ولا عامل الضرورة. فبفضل مقاومته لا يجد نفسه مجبراً على التعامل مع المستعمر الذي يقف عند باب بيته، ولا يجد في ذلك التعامل ضرورة تبقيه على قيد الحياة أو تقيه شر الموت. لذلك من يطبّع مع المحتل في لبنان هو مطبّع باختياره لا مجبراً ولا مضطرّاً بحكم الواقع الجغرافي أو الضرورة الحياتية. وإنّ من أشد أشكال التطبيع خطورةً هو التطبيع الفكري الذي يصبح فيه الاستعمار أمراً طبيعياً وفق المنطق الأعوج والفكر المعيب.