يُتقن أقطاب النظام المتعثّر العمل السياسي على حافة الهاوية، لإعادة إنتاجه وبث الروح في نظام مأزوم سياسياً واقتصادياً. بدخان الإطارات، رسموا في الأسبوعين الماضيين الأدوار المطلوبة من محازبيهم في ساحاتٍ اختلفت شعاراتها باختلاف المعركة: حكومية، رئاسية، «بطريركية»، محصّنة جنودها بعدّة شغلٍ «بيّاعة» في زمن الانهيار؛ فرغيف الخبز لا بد أن يحرّك بعضَ من هم في أسفل الطبقات المسحوقة في استغلالٍ يزيد من حجم فجور منظومة النهب والفساد والتبعية بمختلف أركانها السياسية والمالية والقضائية والأمنية.
وما تغييب الشعارات المطلبية الجامعة إلّا اغتيال واضح لانتفاضة عجزت عن خلق منابرها السياسية، وتراجعت تحرّكاتها لأسباب منها ما يرتبط بطريقة عمل المجموعات ومنها ما يخرج عن إرادتها. محطات فاصلة في هذا المسار التراجعي، أبرزها الوضع الناشئ عن جائحة «كورونا» وتفاقم الانهيار. لكن حراك السلطة المستغل للفرص في كل مرّة لم يؤسّس فقط للفرز على مستوى المجموعات بل أبعد منظومة النهب من دائرة الضوء، مطمئنة إلى الانقسام الحاصل داخل بنية الانتفاضة بين مجموعات تتبنّى قراءة المشهد على هذا النحو، وأخرى كـ«جبهة 17 تشرين»، أو «العسكريين المتقاعدين» التي وجدت في تقاطع مشروع قائد الجيش السياسي مع الحراك السلطوي فرصة لطرح حكومة عسكرية انتقالية، وثالثة كـ«بيراميد» ومن يدور في فلكها دعمت مبادرة بكركي فقط لتماهيها سياسياً مع طروحات البطريرك، بمعنى آخر كانت مستعدّة تحت شرط الضرورة والحاجة للتحالف مع المتناقض مع مبادئها الأساسية ألا وهي «دولة مدنية علمانية».

«الشيوعي»
في مواقف القوى التي امتنعت عن الانخراط في احتجاجات الأسبوعين الماضيين، يرى مسؤول العلاقات السياسية في «الحزب الشيوعي» حسن خليل، أن «زج الجيش والقوى الأمنية في الصراع الداخلي على قاعدة التقسيم المذهبي هدفه كشف البلد أمنياً، وما الدعوة إلى التدخل الخارجي من خلال طرح موضوع الحياد أو المؤتمر الدولي إلا رغبة بمزيد من الانقسام الداخلي والاستجابة للمطالب الأميركية وبالتحديد بموضوع الصراع في المنطقة».

«وعي»
في السياق عينه، تؤكد الناشطة في مبادرة «وعي» نعمت بدر الدين، أن «تحريك السلطة للساحات بشكل فئوي للتصويب على فريق سياسي محدّد كان واضحاً منذ البداية»، مع تأكيدها «مشاركة بعض الثوار الموثوق بوطنيتهم، رغبة منهم بعدم ترك الشارع للأحزاب مع المحافظة على تمايزهم». ولتخطّي المعضلة، تسعى قوى الاعتراض للخرق على المستوى السياسي، تلفت بدر الدين، كون العمل الميداني قائم ومستمر، أمّا العنصر الغائب فهو الجبهاوي الذي يضم مجموعات تقدّم بديلاً جدياً وما حصل في الأيام الماضية من الضروري أن يدفع بهذا الاتجاه.


من مسيرة اليوم



«الشبابية للتغيير»
في اليومين الأوّلين للاحتجاجات الأخيرة تعرّض ناشطون في «الحركة الشبابية للتغيير» لقمعٍ من إحدى وسائل الإعلام بعد أن حاولا على الهواء تصويب الشعارات المرفوعة، وانكفأت المجموعة عن المشاركة بعد مشاهدات لأعضائها كيف تدار الأمور حزبياً على الأرض. عن دور الجيش، يقول عضو المكتب السياسي في الحركة علي حمود: «كانت المؤسسة العسكرية وستبقى أداة قمعٍ وجزء من منظومة الحكم، تستشرس بهدف وتتراجع بهدف وفي الحالتين تخدم إمّا المنظومة أو القائد والجهات المرتبط بها».

«حركة الشعب»
أمّا «حركة الشعب»، وعلى لسان العضو القيادي فيها أحمد حلاني، فاعتبرت أن «حزبَي القوات اللبنانية والكتائب تحرّكا في تبنٍّ واضح لكلام البطريرك بشارة الراعي حول الحياد ونزع سلاح حزب الله والتدويل، في المقابل تحرّك كل من حركة أمل والحزب الاشتراكي وتيار المستقبل للمطالبة بتشكيل حكومة بشروط الرئيس المكلّف سعد الحريري وللضغط على حزب الله ورئيس الجمهورية ميشال عون».

«القومي»
عدم مشاركة «الحزب السوري القومي الاجتماعي – الانتفاضة»، يعيدها عضو مكتبه السياسي هاني فيّاض، إلى «قرار بعدم دعم أي تحرّك لا يتوافق والرؤية السياسية للحزب وخاصة إذا كان يستخدم الشارع لإعادة تأجيج انقسامات 8 و14 آذار».

«المرصد الشعبي»
لا تخرج بكركي من نطاق «كلن يعني كلن» بالنسبة إلى «المرصد الشعبي لمحاربة الفساد»، على مبدأ رفضه لكل المنظومة بما فيها الدينية. هكذا يعبّر عضو الهيئة التأسيسية في المرصد، هادي منلا في حديثه عن الحراك السياسي المضاد الذي بدأ مع مبادرة الراعي وتلقّفته القوى السياسية في الشارع.

«شباب المصرف»
وكمعظم مجموعات الانتفاضة التي ترى أن قطع الطرقات أداة احتجاج مشروعة إن كانت مضبوطة ولغاية محدّدة وأجل محدّد، يرى أيمن زين الدين، من مجموعة «شباب المصرف»، أن «القطع يُفترض أن يخدم هدفاً شعبياً أو مشروعاً سياسياً بديلاً، والقطع الحاصل لم يكن في هذا الإطار».

«ممفد»
في السياق عينه، تنبّه حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، على لسان أحمد عاصي، أحد أعضائها، من سهولة خرق التحرّكات العشوائية وغير الهادفة من قبل السلطة نفسها في تلك الساحات المفتوحة، حيث تفضّل الحركة في العمل الميداني الابتعاد عن تحرّكات ردة الفعل أو العمل الملحق لهبّة الناس بسبب حالة الرفض.

التحرّكات تعود إلى الشارع
بالتجربة أدركت تلك المجموعات أن اعتبار الشارع هدفاً، بحدّ ذاته، هو انزلاق، وعليه بات للتحرّكات سقف يحكمها، عماده وضوح المشروع السياسي والرؤية والعناوين والمطالب الجامعة بشعاراتها الاقتصادية والاجتماعية التي خرج من أجلها الناس وكل تحرّك هادف للضغط على مصالح أركان السلطة. ولعل الأمثلة القريبة على ذلك تجسّدها مسيرة المودعين السبت الماضي ومسيرة بعد ظهر اليوم الجمعة من وزارة الداخلية إلى مجلس النواب مروراً بالمصرف المركزي ووزارة الاقتصاد، والتي ستشارك فيها هذه القوى كافة، ما عدا «مواطنون ومواطنات»، بالإضافة إلى مجموعات: «الشعب يريد إصلاح النظام»، «حزب الخضر»، «لـِوطن»، «ائتلاف بناء الدولة»، «الشعب يقاوم الفساد»، «رابطة موظفي الإدارة العامّة»، «المبادرة الوطنية»، «حركة النهضة»، «المنتدى الاجتماعي»، «تكتل الثوار الأحرار»، «ثوار ساحة الشهدا»، «الكتلة الوطنية الصلبة ـــ الهرمل»، «معاً لأجل لبنان ـــ الهرمل»
بدأ تحرّك هذه القوى اليوم انطلاقاً من رؤية لديها أن مفتاح الحل هو فرض حكومة انتقالية مع صلاحيات تشريعية استثنائية تتشكّل من شخصيات من خارج المنظومة الحاكمة، من مهامّها التدقيق الجنائي في مختلف مؤسسات الدولة، تسريع التحقيقات في جريمة المرفأ، استعادة الأموال المنهوبة والمهربة ومحاكمة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إقرار التشريعات الإصلاحية وفي طليعتها القوانين الضامنة لاستقلالية القضاء ورفع الحصانات. الانطلاق كما يشير المشاركون من أمام وزارة الداخلية هدفه التنديد بالقمع الذي ارتُكِبَ بحق المنتفضين في طرابلس، ولسؤالها عن ضرورة الانتقال إلى تطبيق قانون مدني للأحوال الشخصية، النقطة الأولى نحو الدولة العلمانية. النقطة الثانية أمام مصرف لبنان اعتراضاً على سياسات حاكمه رياض سلامة ودوره في تدهور قيمة الليرة، ومنها إلى وزارة الاقتصاد احتجاجاً على تخلّيها عن دورها في محاولة ضبط طمع التجار في ظل استفحال الأزمة المعيشية، وأخيراً إلى مجلس النواب «المحتلّ من سلطة الطوائف والخادم لمصالحها لا للناس» على حد تعبير بعضهم.