منذ تقرر إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى، ثمة مدينة لم تهدأ الحركة السياسية والأمنية وحتى العسكرية فيها، لكنها بقيت دائماً بعيدة عن الأنظار. فحرب التبانة ــــ جبل محسن وظاهرة الوزير السابق أشرف ريفي التي لا توازيها غرابة سوى ظاهرة الوزير محمد كبارة وغيرهما الكثير، كلها كانت ستشغل اللبنانيين عن أي أمر آخر لو أنها كانت في بيروت أو أحد أقضية جبل لبنان. إلا أن ما يحصل في طرابلس يبقى فيها دائماً على نحو غريب. من يدقّون نواقيس الخطر حين يسمعون أحد سلفييها، لا يكادون ينتبهون، مثلاً، إلى تجاوز برنامج احتفالاتها الميلادية في الإدارة والتنظيم والجمال كلاً من بيروت وجونية وجبيل. فالمدينة تشعل نيراناً ثم تطفئها من دون مبالاة من أحد، لعدم فهم المدينة نفسها لما يحصل في أروقتها بحكم تحريك ضباط الأمن لا السياسيين لخيطانها، إضافة إلى عدم جاذبية سياسييها.
ولا شكّ في أن اللعنة الرئيسية التي أصابت المدينة هي دمغة الفقر في بلد يتابع ويتحمس لأخبار الأغنياء أكثر من اهتمامه بأخبار الفقراء، فضلاً عن تيقّن الرأي العام من أن كل اللاعبين، نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي ومحمد كبارة وأشرف ريفي والسلفيين، ليسوا إلا عناوين مختلفة لمضمون حريريّ واحد.
فسواء بقي قانون الانتخابات على حاله أو تغير، ينتظر أن تشهد طرابلس واحدة من أبرز الجولات الانتخابية. ففي ظل الانكماش الماليّ الإقليمي، برز نجيب ميقاتي كأحد أبرز مالكي المال الوفير. وفي حال قرر توظيف عشرين ألف مندوب انتخابي بنحو أربعة ملايين دولار، فلا أحد من الماكينات الانتخابية سيكون قادراً على مزاحمته. وفي حال قرر كسر إنفاق خمسة أو ستة ملايين إضافية، فسيكون الحريري أمام مصيبة حقيقية. وإضافة إلى المال هناك عدة نقاط قوة لميقاتي مقارنة بالحريري، أبرزها:
أولاً، المعركة الدائرة بين الحريري وريفي ضمن الملعب الواحد على جمهور مشترك، بمفاتيحه الأساسيين وإعلامييه ونقابييه وضباطه وعسكره... فيما ميقاتي وجمهوره وماكينته في منأى عن كل ما يحصل. ومن دون الدخول في تضخيم الإحصاءات لحجم ميقاتي، يكفي القول إن رئيس الحكومة السابق حافظ على جماعته فيما عجز الحريري عن ذلك، وهو يصارع اليوم لاستعادة الشارع من ريفي لا لسحب الكوادر المهمين من عند ميقاتي.

الجميع مقتنع باستحالة المواجهة: ميقاتي لا يقاتل والنتيجة سيان سواء فاز هو أو الحريري


ثانياً، خسارة الحريري لكل العدة السياسية التي استخدمها في التحريض على ميقاتي.
ثالثاً، كثرة الحلفاء المحتملين لميقاتي بحكم رغبته في الحصول على 6 مقاعد نيابية من أصل 18 في عكار والمنية والضينة وطرابلس، فيما الحريري ملزم بالحصول على 12 مقعداً أقله وترك ستة للحلفاء المفترضين لحفظ ماء وجهه.
وعليه يمكن تخيّل معركة قوية بين الحريري وميقاتي. لكن ما يفترض أن يحول دون حماسة الجمهور أو حتى التفاته إلى هذه المعركة هو ثقة الجميع باستحالة حصول مواجهة، نتيجة طبيعة ميقاتي غير المقاتِلة أولاً، ومعرفتهم ثانياً بأن النتيجة النهائية ستكون هي نفسها، سواء فاز الحريري أو ميقاتي. ولا شك في هذا السياق أن إعلان ميقاتي نيته خوض المعركة في طرابلس والمنية والضنية وعكار في وجه المستقبل وريفي سيبدأ بالظهور قريباً، لكن كل المحركات ستطفأ بمجرد أن يبادر رئيس الحكومة إلى الاتصال بميقاتي بعيد انتهاء العرض، ليطلب منه التهدئة. فمشكلة الشمال تكمن في افتقاد معاركه السياسية كما العسكرية للمصداقية.
والبحث في المدينة نفسها عن ردود فعل تجاه ما يحصل بين ريفي والمستقبل هذه الأيام لا يقود مثلاً إلى أيّ نتيجة، بحكم الثقة الشعبية بأن الأمر لا يتعلق بمبدئية ريفي أو تمسكه بالقضية وغيرها من الشعارات؛ من استفاد من ريفي في الأعوام القليلة الماضية يشعر بالحياء اليوم، لكنه سيحتاج إلى خدمات غداً يعلم أن ماكينة كبارة ستسر بتأمينها. وفي حال تأخر كبارة، فإن ميقاتي «حاضر ناضر». هكذا تجري الأمور. حين كان فيصل كرامي وزيراً، كان يتطلب بلوغه في مكتبه شقّ صف مكتظ بالمحبين. ولا أحد بالتالي يعلق آمالاً أو يميّز بين مسؤول وآخر. كل المطلوب هو إجراء الانتخابات هذه المرة، على أمل تشكيل لائحة أو اثنتين أو حتى أربع، فيزداد الطلب على المندوبين وتتحسن الأجور قليلاً ويلتفت المسؤولون عن الخدمات إلى هذه المناطق أكثر. هذه حدود المعركة وسقفها حين يكون الحريري وميقاتي وريفي والصفدي هم اللاعبين الأساسيبن.
المعركة داخل البيت العوني أو بين القوات والكتائب و»بيروت» و»بيروت مدينتي» تجتذب الأضواء بحكم وجود شعارات رنانة، مثل محاربة الإقطاع والإصلاح والتغيير وغير ذلك، لكن في طرابلس لا شيء من هذا كله: الكل يرى في الرئيس رفيق الحريري شهيداً مقدساً، والكل يرى في وريثه مفكراً سياسياً عظيماً، والكل يحب الكل، وكل المطلوب مقاعد نيابية للكل.